خانب .. فى سوق الحوت

خانب .. فى سوق الحوت

  • المهدي يوسف كاجيجي

[ سوق الحوت” بشارع الرشيد في طرابلس، هو قبلة الناس يوم الجمعة. من ذا الذي لا يمضي ظهيرة أيام شهر رمضان الكريم، تسحبه أقدام صائم نحو أروقة المكان، ونفسه التي تشتهي كل يوم سلعة يفتتح بها إفطاره؟ من ذا الذي كان يفوت على نفسه في ذاك الشهر شراء الفطائر والمخللات و(البوريك) وغيرها من شهوات رمضان، من المكان الاقدم في تاريخ التسوق بليبيا؟ ] هذه المقدمة لتحقيق صحفي جميل كتبته “حليمة التواتي” على صفحات موقع “بوابة أفريقيا الإخبارية”، شمل السيرة.. التاريخ.. والناس لسوق الحوت، وأعاد الذاكرة للذين ارتادوه قديمًا وما زالوا، ليس من باب التسوق بل ليعيدوا عجلة التاريخ، ليتجولوا في ردهاته، ويمسحوا برفق على ابوابه العتيقة.

سوق الحوت، أنا واحد من الذين ارتادوه قديمًا، عندما دخلت طرابلس، ولأول مرة في منتصف الخمسينات، قادما من الجنوب في رحلة استغرقت ثمانية أيام، ضمن مجموعة من الطلبة أرسالنا، إلى معهد المعلمين في طرابلس. عندما وصلنا أنزلنا في فندق “العناية” بمنطقة شارع الرشيد، بالقرب من سوق الحوت. كل شيء كان مبهرا لنا في المدينة الجميلة، ولكن سوق الحوت كان له انطباع مختلف، جمال المعروضات من مواد غذائية، خضروات وفواكه واسماك، طيور الزينة وسلاحف برية وأشياء كثيرة، ولكن الأجمل من كل ذلك كان زواره وزبائنه من ابناء المدينة، بملابسهم العربية الأصيلة، وابناء الجالية الإيطالية بملابسهم الأنيقة. صور مازالت محفورة في ذاكرتي. وعندما انتقلت إلى طرابلس، كان سوق الحوت قبلتي كل صباح جمعة، وعندما يحل رمضان تتحول إلى زيارة يومية برفقة الأصدقاء، للتسكع وقتل الوقت وشراء ما يلزم وما لا يلزم، ومراقبة ردود الفعل الطريفة للزبائن بما كنا نطلق عليه وقتها “حشيش رمضان”.

خانب في سوق الحوت

في أحد الأيام استوقفنا مشهد غريب، تجمع وزحمة وعندما سألنا قيل لنا: شدوا “خانب” في السوق. وعندما اقتربنا شاهدنا شخصا في وضع مزر، مربوط على كرسي، يتداول ضربه كل من مر بالمكان. عرفنا انها عادة متبعة، كلما تم القبض على سارق “خانب”، أياّ كانت قيمة المسروق حتى ولو كانت ربطة معدنوس، يتم حجزه في السوق دون تسليمه للشرطة، والعقاب هو أن كل من يدخل السوق يقوم بضربه، فأصبح قولًا مشهورًا يضرب به المثل “كيف الخانب في سوق الحوت”

إنها طرابلس العروس الفريدة
أقترب الشهر الكريم، وتغيرت الدنيا وكبرنا وهرمنا ولم يتبق لنا سوى الأبحار في الذاكرة بحثا عن حكايات قديمة نقوم باجترارها. بالأمس التقيت مع واحد من قدامى الرفاق لسوق الحوت، وعندما استعرضنا الحال في طرابلس العاصمة وما وصلنا اليه ضحك قائلا: طرابلس صار لها كيف الخانب فى سوق الحوت، ربطوها على كرسي واللي يخطم يعطيها كف، وكأنها هي المسؤولة عن كل المشاكل في كل ربوع ليبيا.. عندما يكون لواحد من اخوتنا في الجنوب مشكل فى الشمال كاحتجاز قريب أو تعطل مصلحة، وتحت شعار الجنوب المهمل، يتم قطع المياه على طرابلس. وضمن الصراع المناطقي على الغنائم تم إحراق مطار طرابلس.وعندما كان يختلف الجمل مع البقرة، كان يتم إيقاف الملاحة الجوية بمطار معيتيقة. وتبعا لحالة المتصارعين المزاجية، تحصل المدينة على خدماتها من الكهرباء والوقود والسيولة المالية. والطامة الكبري عندما تطور الصراع على السلطة، بالاحتماء بالأجنبي وأصبحت الحرب على أرضنا لحساب الغير، دفعنا فيها ثمناً باهظاً من الدم والنزوح والتدمير والرعب المتواصل. ياخوي مهدي حتى اللي يتعارك مع زوجته يطلّع غله على طرابلس، واحد يعطيها كف والآخر يعطيها “كاتشو”. وأختتم حديثه ضاحكًا وقائلا: ولكن بالرغم من كل ذلك يا حاج، ستظل طرابلس هي طرابلس، صابرة.. وحاضنة للجميع. الم تدخلها “شلافطيا” فاحتضنتك ومنحتك المواطنة. إنها العاصمة طرابلس يا حاج مهدي، وما يعجبك في الزمان إلا طوله، كلهم زائلون راحلون، وستظل ام السرايا والشط والهاني اسمًا منقوشًا ومحفوراً على جذوع اشجار الفل والياسمين، وبالرغم من جبال القمامة التي تغطي شوارعها، ستظل أزقتها وشوارعها ونفوس أهلها تعبق بروائح الزهر والحنة، وبالرغم من هذا الزمن الرديء، ستبقي عروسا فريدة لا منافس لها في بحرها المتوسط. و رمضان كريم علي ليبيا واهلها.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :