- الكاتب :: موسى الأشخم
ما دعاني إلى كتابة هذا الخطاب المفتوح إلى المثقف والسياسي اللبناني والمبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة، ما أدلى به من تصريحات يوم 6 يونيو 2019 لقناة روسيا اليوم تتعلق بالأزمة الليبية؛ رَكنَ فيها لإمكانية الاستفادة من الخبرة اللبنانية لحل الأزمة في ليبيا، حين أشار إلى “أن أي حل سياسي في ليبيا يجب أن يرتبط بتوزيع ثروات البلاد”. وهو ما يشير إلى دفع الأزمة باتجاه سيناريو “ديمقراطية المحاصصة” المطبقة في لبنان منذ الاستقلال وإلى اليوم. والذي دفعني إلى التوقف عند هذا التصريح: وجود استراتيجية مسبقة من قبل صانعي القرار في الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، لتعميم النموذج اللبناني في نهاية النفق الذي أدخلت فيه بلدان الربيع العربي، كجزء من مشروعات عبء الرجل الأبيض لنشر الديمقراطية التي أطلقها صانعو القرار والسياسات في واشنطن عقب هجمات 9 سبتمبر 2011م. والتي تم الإعلان عنها بعد الانتهاء من احتلال العراق، وصدور تقرير التنمية البشرية الشهير عام 2003م. وهو الذي استندت إليه المبادرات الأمريكية لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط؛ حيث شخّص التقرير مشاكل المنطقة في: غياب الديمقراطية، واضطهاد المرأة، وضعف التنمية البشرية. تلك المشروعات التي تضع فوق الطاولة سيناريوهات لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، بينما تضع تحت الطاولة سيناريوهات لنشر الحروب الأهلية والطائفية – والتي ثمة حرص على إطالة أمدها إلى عقود – على أن ينتهي سيناريو تلك الحروب بتكريس النموذج اللبناني، المتمثل فيما سمي بديمقراطية المحاصصة سيئة الذكر، وذلك من أجل تكريس التبعية السياسية والاقتصادية للقوى الدولية والإقليمية. والأرجح أن تكون بلادنا المرشحة الأولى لِلّبْنَنَة، وهو ما يشير إليه اختيار لبنانيين من أربع مبعوثين أمميين إلى ليبيا. أستاذ غسان لا يغيب عن إدراككم أنّ الإمبراطوريات الاستعمارية حين أجبرتها الظروف لمغادرة المنطقة العربية وبلدان نصف الكرة الجنوبي، زرعت فيها ألغاماً وفخاخاً بل وأوبئة سياسية واجتماعية، بحيث لا تتمكن من النهوض والاستقرار، وبما من شأنه الإبقاء عليها دولاً فاشلة ومتنازعة. وذلك من خلال المفخخات التالية:
1- تمكين العائلات الإقطاعية التابعة لها من إحكام قبضتها على مستعمراتها السابقة.
2- تعمد رسم خرائط تلك البلدان على نحو لا تتطابق فيها الجغرافيا السياسية مع الجغرافيا البشرية، أو لا تتطابق فيها الحقيقة السياسية مع الحقيقة الاجتماعية.
3- ترسيخ قاعدة المحاصصة المناطقية “الجهوية” أو الطائفية أو القبلية. وتعد لبنان النموذج الأمثل لنجاح تلك السياسات الاستعمارية، إذ تجمعت فيه الألغام والمفخخات الثلاثة وأتت أكلها كاملاً دون نقصان. أستاذ غسان إنّ مبدأ المحاصة الذي يشير إليه تصريحكم إلى قناة RT، والمتعلق بتوزيع ثروات البلاد لا يلاقي قبولاً من الليبيين، الذين لا يحظون باللقاء بكم من جهة، ومن جهة أخرى فهو لا يتجاوز كونه أغلالاً وقيوداً ستؤدي إلى تكبيل الوطن، وتمنعه من استقلالية قراره السياسي والاقتصادي، ومن تحقيق حلم النهوض والنمو الاقتصادي، وتكرس تبعيته إلى الخارج. إذ أن المتقاسمين للجاه والمال أو بتعبير آخر لكعكة الوطن سيعتبرون وجود الداعم الخارجي الدولي أو الإقليمي الضمان الوحيد لضمان حصتهم منها، بل إنهم سيسعون كل مرة لزيادة حصتهم منها وفقا للوزن الدولي والإقليمي لداعميهم. وأن تحقيق ذلك يمر عبر تقديم التنازلات للقوى الدولية والإقليمية الداعمة لهم. وهو ما سيدعو القوى المحلية المتاقسمة لكعكة الوطن أو المتنازعة عليها إلى التشدد مع خصوم الداخل، وتقديم التنازلات للداعمين الدوليين والإقليميين أو للخارج لضمان حصولهم على نصيب الأسد من الكعكة.
أستاذ غسان ثمة اختلافات جوهرية بين ليبيا ولبنان، ينبغي على المتعاطي مع الملف الليبي أخذها في الاعتبار، نجملها في الآتي:
1- تأسست الدولة اللبنانية على المحاصصة الطائفية منذ الاستقلال وإلى اليوم. في حين لم تتأسس الدولة الليبية على أساس طائفي أو قبلي أو مناطقي جهوي، بل تأسست على أساس المواطنة. وإن كان هناك هوة بين النصوص الدستورية والممارسة.
2- ثمة قبول عام لدى غالبية اللبنانيين لمبدأ المحاصة الطائفية، والتفكير في إلغائها قد يدخل لبنان في أتون حرب أهلية جديدة. بينما ليس ثمة قبول عام في ليبيا لا للطائفية ولا للمناطقية “الجهوية”. وإن وجدت فئة قليلة من المتصدرين للمشهد الليبي، ترى في شحن العواطف المناطقية “الجهوية” والقبلية أداة لتحقيق بعض المكاسب الشخصية على حساب الوطن والمواطن.
3- ثمة قبول لبناني لسطوة القوى الدولية والإقليمية على الشأن المحلي، إذ يتفاوض المتنفذون اللبنانيون عند كل أزمة سياسية جديدة مع القوى الدولية والإقليمية الراعية للأطراف اللبنانية لإمكانية حل تلك الأزمة. بينما يتمسك الليبيون باستثناء فئة قليلة من المتصدرين للمشهد الليبي والحالمين بتحقيق زعامات مناطقية أو قبلية زائفة باستقلالية القرار السياسي الليبي، ويرفضون الإملاءات والتدخلات الخارجية في الشأن الوطني
أستاذ غسان لو كانت ديمقراطية المحاصصة خياراً ناجعاً لطبقته فرنسا، قبل أن تفرضه على اللبنانيين ولطبقته الإمبراطوريات الغربية على مواطنيها قبل أن تشير علينا بانتهاجه.
وأخيراً: لكل ما سبق نناشدكم أستاذ غسان أن تستبعدوا فكرة الاستفادة من الخبرة اللبنانية في الملف الليبي؛ حتى لا تلعنكم الأجيال القادمة من الليبيين من جهة، وتحققوا النجاح الذي تصبون إليه في ليبيا من جهة أخرى. وضَعُوا في الحسبان أن الشخصية الليبية تختلف عن الشخصية اللبنانية، والظروف الليبية تختلف عن الظروف اللبنانية، وأن جل الليبيين الذين لم تصل إليهم ولم يصلوا إليك، يفضلون الموت على أن يسلموا قرارهم السياسي والاقتصادي إلى الخارج؛ فهم لا يتمتعون بحكمة اللبنانيين ومن على شاكلتهم من الشعوب، التي تعطي الأولوية للنمو والازدهار الاقتصادي على حساب استقلالية
القرار السياسي. وليس أدل على ذلك رفض الليبيين لتولي أصحاب الجنسيات المزدوجة للوظائف القيادية في البلاد، وازدراء الليبيين للذين يزاوجون في حديثهم بين اللغة العربية والأجنبية، وجل الليبيين يفضلون نظاماً ديكتاتورياً يستقل بقراره السياسي على ديمقراطية صورية تفتقد لاستقلالية قرارها السياسي، إذا لم يتوفر لديهم خيارٌ ثالثٌ. والخبرة الاجتماعية والتاريخية الليبية في مقاومة الرومان والطليان على السواء، تشير إلى أنه إذا فرضت اللّبْنَنَة أو ما يسمى بديمقراطية المحاصصة المقترنة بالضرورة بغياب استقلالية القرار السياسي على الليبيين؛ فإن الحرب الأهلية الليبية أو المقاومة الليبية لهذه المشروعات ستستمر حتى التخلص منها، أو حتى انتهاء الحضور الليبي في هذا الكوكب. والنموذجان الأفغاني والصومالي ليسا عنا ببعيد.