- محمد نجيب عبد الكافي
الشباب والتشييد
ذكرته وأذكره كثيرا، لأنه كان متعدّد المواهب والمميزات، واستحضرته أكثر يوم 18 -12 يوم اللغة العربية عالميا، حسب قرار الأمم المتحدة، اعتمادا على ما قنّنه فرعها الثقافي المعروف باسمه اللاتيني “يونسكو”. أما استحضاره في هذا اليوم بالذات، فهو عائد لصلته بالحدث الذي لعب، في بعثه والمطالبة به دورا مهما، صحبة آخرين من زملائه، خاصة المغربي. اسمه كامل، وهو كامل الصفات الحميدة، ورغم معرفتي إياه، وصداقتنا المميزة، لم أخصص له خاطرة أو مقالا منفردا، كما فعلت مع آخرين، وما ذلك منّي إلا احتراما واتباعا شديدا لقراري القاضي بأن لا أقدّم إلا الذين، فوق المعرفة والصداقة، كان لي معهم تعايش وتبادل واقتراب، يجعلني أعرفهم معرفة عميقة واقعية، تسمح لي بالوصف الصادق، والرأي الصائب، والحكم النزيه. والصديق كامل هذا، أعني المرحوم كامل حسن المقهور، تصادقنا نعم، تبادلنا كثير الآراء والمناقشات مع الود والاحترام، وجمعتنا مناسبات ثقافية وغير ثقافية عديدة، لكن لم يكن بيننا ذلك الاقتراب فكشف الباطن الخفي، حتى أستطيع بكل نزاهة وصدق، إبداء رأي أو حكم. هذا ما جعلني أبعده، مثل آخرين كثيرين ممن صادقت وسعدت بمصادقتهم، عن إدراجه في قائمة ثرثرتي ومخزون الذاكرة. أما اليوم، فئن ذكرته، فكما شرحت أعلاه، لنشاطه، وهو يرأس وفد ليبيا لدى الأمم المتحدة، في المطالبة بجعل اللغة العربية لغة عمل سادسة، كأي لغة من اللغات الخمس الأخرى وهي الإنغليزية والفرنسية والصينية والروسية والإسبانية. نجح وصحبه في مطالبتهم، فدخلت اللغة العربية منظمة الأمم المتحدة تحتل فيها، وفي التعامل داخلها، المكانة التي تستحقها، فأصبحت لغة سادسة من لغات العمل في المنظمة.، وكان ذلك يوم 18 ديسمبر/ كانون الأول 1973. وها هو نفس اليوم من السنة يُتّخذ يوما عالميا للغتنا، المحترمة المعتبرة لدى الآخرين، المحتقرة المهملة لدى أبنائها الشرعيين أو بالتبنّي. تعرّضت أكثر من مرّة إلى المجهودات والتضحيات التي بذلها المؤسسون الأولون في ليبيا الحديثة بعد إعلان الاستقلال، مسؤولون كانوا أو آباء وأولياء، فأرسلوا أعدادا من الشبان إلى عديد الجامعات في العالم، حتى يتزوّدوا بعلم ومعارف تمكنهم من خدمة وطنهم الذي كان في أشد الحاجة كي يستطيع بناء نفسه ومسايرة الزمن. رجع أولئك الشبان بعد تخرجهم، وكان معظمهم مليئا حماسا وطموحا وإرادة لخدمة البلاد، والمساهمة في النهوض بها وتقدّمها. كان كامل المقهور من أولئك، يمتاز عن بعضهم بتعدد مواهبه واستعداداته الفطرية. فهو إلى جانب تخصّصه في الحقوق، كان كاتبا قصاصا بالفطرة، إن صحّ التعبير، فبدأ يكتب القصة القصيرة وهو “فتى”، فنشرت له مجلات القاهرة عددا منها، ولما أينع واشتد عوده ونضجت معارفه كتب القصة المطوّلة، وأجاد فأحسن.عرفته وهو حديث التخرج، لا أذكر الآن أين وكيف ومع من، لكني لم أنس ما أُعجبت به فيه، من حيويّة، ونشاط، ووطنيّة صادقة متعقلة، واضحة لديه معالمها، فكرّس جهده وطاقاته وعلمه، في خدمة وطنه حيثما عُيّن وأينما تسلّم مسؤولية، من كثير المسؤوليات والمناصب التي ملأها عن جدارة ومقدرة، معظمها تولاها بعد مغادرتي ليبيا. أما علاقتي به، فكانت وهو قاضٍ عادل حريص، ومحامٍ بليغ كاد يتخصّص في الدفاع عن سجناء حرية الرأي والتعبير، فكانت صداقة بعيدة كل البعد عن المسؤوليات، بل دارت واستمرّت وتبلورت، حول محورين لا ثالث لهما: الوطنية والآداب. كان له رحمه الله ما يقوله في المجالين، وأوفى، فيهما، بواجبه بإخلاص وصدق، فنال النجاح والإكبار والاحترام، ممّن عرفه وكان قريبا منه مثلي، ومن الذين عرفوا منجزاته ونتائجها وهم عنه بعيدون. لا مكان هنا لعرض أو تقديم أو تعداد أعماله ومنجزاته، فمجرد سرد المناصب والمسؤوليات التي تقلّدها لا تكفيه صفحتان، فسأكتفي بذكر أحد أعماله الأدبية، لغرابته شكلا ومحتوى. أسماه ” محطات ” شبه سيرة ذاتية ” فأحسن اختيار العنوان، وأتقن وأجاد سرد المحتوى. محطاته هي في الواقع حياته، سيرة ذاتية، لكنها فعليّا، قصة مسترسلة، تاريخ حي أو محلّة الظهرة ومنه إلى مدينة طرابلس، سيرة ووصف خصائص أشخاص برزوا بشكل أو بآخر، تعرّض في سرده لأحداث مهمّة في تاريخ ليبيا الحديث، وجزئيات كثيرة تصوّر البلاد، ومن يمشي على أديمها، تصويرا صادقا ملموسا، بالعبارة الملائمة والأسلوب الخفيف المريح. وصف القاهرة وسكانها كما لم يصفها أحد، لأنه صوّرها بقلمه كما تصوّر الآلة. رحمك الله يا كامل وأكثر من أمثالك في ليبيا الفريسة الضحية اليوم، لا كما أحببتها أن تكون وعملت لتحقيقه.مدريد فى 30-12-2020.