لقد تعلمنا حب الوطن من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فقد روى الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم مخاطبا وطنه مكة عندما أخرج منها : ما أطيبكِ من بلد وأحبَّكِ إليَّ! ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ ) وقدم أصيل الغفاري إلى المدينة فسأله النبي صلى الله عليه (يا أصيل! كيف عهدت مكة؟) قال: والله عهدتها قد أخصب جنابها وابيضت بطحاؤها وأغدق أذخرها وأسلت ثمامها فقال: (حسبك يا أصيل لا تحزنا) وفي رواية (ويها يا أصيل! دع القلوب تقر قرارها) هذا الحب الذي ملك عليه أقطار قلبه ، لا يتعارض مع حبه لله ، وهكذا ربَّى عليه السلام أصحابه ، ومن واجبنا أن نربي أبناءنا على حب الوطن بما يقرر عليهم من سيرته، ومن دروس التاريخ ، ومن النصوص والأناشيد وقد كان المؤلفون للكتب المدرسية ينتقون النصوص المناسبة، ولكنَّ هذه الفتوى تضرب بكل ذلك وتطعن في مصداقية وزارة التعليم وإدارة المناهج والتفتيش التربوي ، ومؤلف الكتاب وصاحب النص وساعدهم في ذلك الفوضى العارمة في البلد وعدم وجود حكومة تعاقب المخطئ إذا تبين خطؤه ، وهو ما تجلى بوضوح في الفتوى رقم ( 2872 ) بتاريخ 28 مارس 2016 ، بخصوص أبيات شعرية بكتاب اللغة العربية للصف الثاني الابتدائي للشاعر عبد المولى البغدادي يقول فيها :
ألا لبيكِ إنَّ الحبَّ أوّلهُ وآخرهُ تجسَّدَ في مُحَيّاكِ
وإنَّ الخيرَ كُلّ الخيرِ منبعُهُ ومبْعثهُ عطاياكِ
وأوصت دار الإفتاء بحذف القصيدة من الكتاب واستبدالها بغيرها من القصائد الخالية من المخالفات والمشتبهات.
وأقول أين المخالفات وأين الشبهات فالمعروف إنّ لغة الشعر تختلف عن اللغة العادية ، إذ هي لغة إيحاءات تقف على النقيض من اللغة العادية التي هي لغة التحديد الوضوح ، فالشاعر عندما يستدعي كلمة من مظانها ويوظفها في سياقاته الشعرية، يكسبها معنى جديدا تستمده من السياق، وهكذا فالكلمة الشعرية لا يكشف عن دلالتها في المعاجم اللغوية ، فالشاعر يخرج باللغة إلى غير ما وضعت له في الأصل ، وهو ما يضفي الجمالية على العبارة الشعرية، ويحولها إلى إشارات وتعابير انزياحية فيها من والمجاز والرمزية ما يحقق الإثارة ويدفع إلى التفاعل مع النص .
ولكم أن تسألوا الإمام الشافعي عن قوله:
دعِ الأيامَ تفعلْ ما تشاءُ
فكيف تفعل الأيام ما تشاء .
نترك الإمام الشافعي ونرجع إلى كعب بن زهير وقصيدته المعروفة في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول** متيم إثرها لم يفد مكبولُ
واستمر في وصف صاحبته سعاد في حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفي المسجد النبوي ويشبه ريقها بالخمر وهي محرمة إذ ذاك ويقول :
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت** كأنه منهــــل بالـــــراح معلول
ومن أوتي جوامع الكلم لم يسكته، ولم يعترض على تشبيهاته حتى أنهى القصيدة، وكرمه ومنحه بردته الشريفة ، ولو لم يكن كعب قالها في حضرة النبي لعارضتم في تدريسها ، ولطبقتم منهجكم النقدي البعيد عن معايير نقد الشعر .
ماذا تقولون عن دواوين شعراء الأمة، لنحرق ديوان من قال :
تراني إذا صليتُ يممتُ نحوها**بوجهي وإنْ كان المُصَـــلَّى ورائيا
ونكفر شوقي حين قال :
وطني لو شُغِلتُ بالخلدِ عنه ** نازعتني إليهِ بالخلد نفسي
وشيخ شعراء ليبيا أحمد الشارف الذي قال في الحرب:
ترانا نشاوى عليها كأنا**شربنا بها خمرة الأندرينا
قد نضطر – تطبيقا لهذا المنهج إلى إلغاء مادة البلاغة من جامعاتنا ومدارسنا الثانوية ، بل نحرقها كما أحرق القذافي ما أسماه بالكتب الصفراء ، ونرمي بكتابي عبد القاهر الجرجاني (أسرار البلاغة ودلائل الأعجاز) وكتب السكاكي والقزويني والزمخشري في البحر ونلعن التثار لأنهم لم يفعلوا ذلك منذ زمن .والموضوع خطير يحتاج إلى كتاب يتولى التوسع فيه.
د/ الخطاب الماي المزداوي
بتصرف