إدريس بن جديرية
يُعد الإعلام أداة محورية في تشكيل الوعي وبناء الهوية الثقافية للمجتمعات، وفي الحالة الليبية، يبرز دوره بدرجة أكبر نظرًا لما تمرّ به البلاد من تحوّلات سياسية واجتماعية منذ 2011، وما تعانيه من انقسام وتراجع في مؤسسات الدولة.
أولًا: الإعلام والثقافة – علاقة تفاعلية
الثقافة هي منظومة من القيم والعادات والرموز والمعارف التي تعبّر عن هوية المجتمع، والإعلام هو الوسيلة التي تنقل وتُعيد إنتاج هذه الثقافة أو تساهم في تغييرها. فالإعلام في ليبيا، سواء المرئي أو المسموع أو الرقمي، قادر على دعم الثقافة الوطنية من خلال:
تعزيز اللغة والهوية، بتشجيع استخدام اللغة العربية واللهجات المحلية في سياقات إيجابية.
التوعية بالقيم المجتمعية مثل الاحترام، التضامن، العمل، والمواطنة.
نشر المعرفة الثقافية المرتبطة بالتاريخ الليبي، والتراث الشعبي، والفنون المحلية.
ثانيًا: الإعلام الليبي بين التنوع والانقسام
بعد 2011، ظهرت عشرات الوسائل الإعلامية في ليبيا، منها ما تبنّى خطًا وطنيًا، ومنها من انخرط في الاصطفاف السياسي والجهوي، مما أثر سلبًا على قدرته في بناء ثقافة جامعة.
غياب الإعلام الموحد أدى إلى ترسيخ ثقافات متنافرة بدل ثقافة وطنية واحدة.
الخطاب التحريضي والسطحي في بعض القنوات أضعف قيم الحوار والتسامح.
التركيز على الصراعات أزاح الإعلام عن دوره التنويري والتثقيفي.
ثالثًا: كيف يساهم الإعلام في ترسيخ الثقافة الإيجابية؟
لتحقيق هذا الدور، يجب على الإعلام الليبي أن يتحوّل من وسيلة لنقل الأخبار والخلافات إلى منصة لصناعة الوعي الثقافي، من خلال:
إنتاج محتوى ثقافي متنوع: برامج عن التاريخ الليبي، الأمثال الشعبية، الفنون، الشعر، الحرف التقليدية، والعادات.
دعم المبادرات الثقافية المحلية من خلال تغطيتها وتوثيقها ونشرها.
إعطاء مساحة للشباب والمبدعين لإبراز رؤيتهم وهويتهم.
تعزيز ثقافة الحوار في البرامج والنقاشات المفتوحة.
الانفتاح على الثقافات الأخرى مع الحفاظ على الهوية الوطنية.
رابعًا: التحديات التي تواجه الإعلام الثقافي في ليبيا
ضعف التمويل والإنتاج المهني للمحتوى الثقافي.
سيطرة الاعتبارات السياسية على الخط التحريري.
غياب استراتيجية وطنية إعلامية موحّدة تعزز الثقافة والتعليم والوعي.
قلة التكوين والتدريب للإعلاميين في الجانب الثقافي.
خاتمة
إذا أرادت ليبيا بناء مجتمع مستقر وواعٍ، فإن أحد المسارات الأساسية هو الاستثمار في الإعلام الثقافي، وتحويل وسائل الإعلام من ساحات صراع إلى منابر لبناء الإنسان الليبي، واستنهاض القيم الوطنية الجامعة. فالثقافة لا تترسخ بالقوانين فقط، بل بالإعلام الذي يكرّسها في الوجدان والسلوك.
((الإعلام الذي نريد في ما عاشته لبييا هو)):
- إعلام وطني، لا فئوي ولا جهوي
نريده إعلامًا يخدم ليبيا الوطن، لا القبيلة، ولا الجهة، ولا الحزب، ولا المصالح الخارجية. إعلام يوحد ولا يفرّق، يبني ولا يهدم، يُعلي من شأن الهوية الليبية الجامعة، ويتجاوز لغة الكراهية والتحريض.
- إعلام حر ومسؤول
حر من القيود السياسية والتجاذبات، ولكن في نفس الوقت مسؤول أمام ضميره المهني وأخلاقيات المهنة. حر لا يعني فوضوي، بل يعني القدرة على نقل الحقيقة دون تزييف أو خوف.
- إعلام تنموي وتوعوي
إعلام يُسهم في بناء الإنسان الليبي، يرتقي بوعيه، يفتح أمامه أبواب النقاش والتفكير، ويطرح الحلول لا الأزمات فقط. إعلام لا يكتفي بالبكاء على الأطلال، بل يدفع نحو التغيير الإيجابي والتنوير الثقافي.
- إعلام يُعبر عن الناس لا عن السلطة
نريده صوتًا للمواطن، ناقلًا لمعاناته، مطالبًا بحقوقه، لا أداة لتبرير فشل المسؤولين أو تجميل الواقع الكارثي. إعلام يمارس الرقابة الشعبية ويُحاسب ولا يُجامل.
- إعلام يُواكب العصر
إعلام متطور، يواكب الثورة الرقمية، يوظف التقنيات الحديثة، ويخاطب الشباب بلغة عصرية وجذابة دون أن يفرّط في القيم أو يسقط في الابتذال.
- إعلام يُصلح ما أفسدته الحرب
نحتاج إلى إعلام يلعب دورًا في المصالحة الوطنية، يفتح المجال للحوار، ويعزز ثقافة التعايش والسلم، بعيدًا عن لغة الشيطنة والتخوين والانقسام.
- إعلام يُعيد الثقة
نريده إعلامًا يُعيد ثقة الناس في الكلمة، بعد أن فقدوا الثقة في كل شيء. إعلام نزيه، لا يضلل، لا يبيع نفسه، بل يُقدس المعلومة ويخدم الحقيقة فقط.
ببساطة: نريد إعلامًا ليبيًا حرًا، وطنيًا، صادقًا، واعيًا بمسؤوليته في بناء الإنسان والدولة، لا تابعًا ولا مُملى عليه.
((القضايا التي يجب أن يقدمها الإعلام الليبي للمجتمع كثيرة، لكن يمكن تلخيص أهمها في المحاور التالية:))
- قضايا المصالحة الوطنية والسلم الاجتماعي
تعزيز ثقافة التسامح والتعايش ونبذ خطاب الكراهية.
تسليط الضوء على المبادرات المحلية والقبلية التي تهدف إلى رأب الصدع.
تقديم برامج تُحفز على الوحدة الوطنية وتُذكر بتاريخ التآخي بين الليبيين.
- قضايا الوعي المجتمعي
نشر ثقافة القانون والمواطنة، ومفهوم الدولة المدنية.
محاربة الفكر المتطرف، وتصحيح المفاهيم الدينية والسياسية المغلوطة.
توعية الناس بخطورة الفساد، الجهوية، والسلبية تجاه الشأن العام.
- قضايا الشباب
طرح مشكلات البطالة، التعليم، الهجرة، الإدمان، الفراغ.
دعم الإبداع والمبادرات الشبابية والمشاريع الصغيرة.
تقديم نماذج شبابية ناجحة تحفز غيرهم على البناء والمشاركة.
- قضايا المرأة
دعم مشاركة المرأة في الحياة العامة والسياسية.
تسليط الضوء على العنف ضد المرأة، وزواج القاصرات، والتمييز المجتمعي.
إبراز دورها في السلام، التربية، والتنمية.
- قضايا التعليم والصحة
رصد مشاكل المدارس والجامعات، وتسليط الضوء على مستوى التعليم المتدني.
تقديم برامج صحية توعوية عن التغذية، الأمراض المزمنة، الصحة النفسية.
التركيز على تطوير البنية الصحية وانتقاد التقصير بشكل مهني.
- قضايا الفساد والإصلاح
كشف ملفات الفساد الإداري والمالي بمهنية وشجاعة.
نشر ثقافة المساءلة والشفافية.
عرض تجارب دول أخرى في الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد.
- قضايا البيئة والتنمية
التوعية بأهمية الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية.
تناول مشاكل التصحر، نقص المياه، تلوث المدن.
دعم ثقافة التنمية المستدامة ومشاركة المواطن فيها.
- قضايا الهوية والثقافة
دعم اللغة، التراث، والعادات الإيجابية في مختلف المناطق.
مقاومة السطحية والاستلاب الثقافي.
تقديم برامج فنية وثقافية تُسهم في النهضة الفكرية.
- قضايا الحقوق والحريات
نشر الوعي بـ حقوق الإنسان، وحرية التعبير، وحرية التنظيم.
الوقوف ضد الانتهاكات والتعديات على الحريات الخاصة والعامة.
دعم دور منظمات المجتمع المدني في تعزيز الحقوق.
- قضايا الجنوب والمناطق المهمشة
التركيز على معاناة الجنوب، فزان، والجبال، والقرى النائية.
نقل صوت السكان المهمشين، ومتابعة الخدمات والبنية التحتية.
دعم العدالة في توزيع الثروة والفرص.
((خاتمة)):
الإعلام الحقيقي لا يكتفي بنقل الحدث، بل يخلق الوعي ويصنع رأيًا عامًا مسؤولًا. وفي ليبيا، نحتاج إلى إعلام يُعالج القضايا التي تهم الإنسان قبل السياسة، ويُعيد ترتيب الأولويات لصالح بناء الدولة والمجتمع.














