دينونة

دينونة

  • د / سعيد الاريل / كاتب وقاص ليبي

كان يراقب ذلك المشهد الذي قفز أمامه دون سابق تخطيط له كانت هناك مجموعة من الديدان خرجت من قطعة لحم نتنة و ظلت تلتهمها بشراهة ..و فجأة اختفت تلك الديدان بعد أن أتت على تلك القطعة بالكامل و لم يبق منها سوى أثر..لعل تلك الديدان تريد أن تنظف الأرض من ذلك العفن و تنهي وجوده..تغيرت الصورة و ساد العدم ..لقد اختفى كل شيء من أمامنا ..قطعة اللحم و الديدان و كأن شيئا لم يحدث لقد أدرك العدم تلك الديدان ..أدرك أن الحياة هي وجود و فناء .. فالعدم نقيض الوجود و رأى أن الحياة بدون موت هي عدم مطلق .. فالجدلية هي أساس وجودنا ..عدم يسبقه حياة .. فالحياة من حولنا قابلة للفناء و هكذا الوجود .. لو رفعنا العدم ماكان هناك وجود .. فالحياة أساسها نقائض ..كان لديه إدراك بأن هناك يد شكلت وجودنا ببراعة فائقة .. قفزت من أمامه صورة أبيه الذي غيبه عنه الموت وهو يحتضنه في صباه و لازالت صورته ملتصقة طوال وجوده ترقرقت عيناه بالدموع لغيابه الأزلي ..وكلما يذكر الصورة كانت ترقرق عيناه بالدموع .. و تساءل هل يمكن أن يدرك والده ثانية ؟ و كان يؤمن أن العدم لا ينجم عنه حياة ثانية..لقد اختفت تلك الديدان من حوله و لم تعد ثانية ..لعل المشهد لا يختلف عن غياب و الده ..جسدا و روحا .. كان يقول لنفسه هل أرى والدي ثانية كان لديه اعتقاد بأن ذلك ضرب من الخيال .. كان يذكر عندما غيّب عن الحياة آثر حادث تعرض له لم يعد يتحسس الحياة من حوله .. لعل ذات الموقف قريب من الموت ..فالعدم هو غياب الوعي عنا هو الذي خلق لنا تراجيديا الوجود .. كان يذكر ذلك الوجه الملائكي لمحبوبته التي ذهب بها الموت بعيدا ..لعله طوال حياته كانت صورة تلك الفتاة تتراقص أمامه .. و العدم هو الذي يدفعنا للحياة .. كان يؤمن لا أبدية لهذا الوجود المتناقض .. فالعطب ينفث من حولنا دون توقف ودون رحمة .. فنحن نعيش في الموت ..كان كل شيء من حولنا يقفز إلى ضده .. الألم مقابل السعادة .. فالإنسان محكوم عليه بالعدم إنه يشعل الحروب و العداوة و لا يفهم ماجدوى ذلك .. إنه مدفوع إلى العدم .. دون أن يعي ذلك ..إننا نسعى إلى الموت رغم أرادتنا .. فنحن مدفوعون للموت..فالجياة بدون موت لا معنى لها مثل تلك الديدان التي تحركت في الوجود .. فالصراع لا ينفك من حولنا ..خلقنا هكذا و نظل على المسار حتى و إن توفرت الحكمة من حولنا .. حكمة السلام و المحبة .. فالإنسان نقيض ذاته من خير أو شر إنه يسعى للخير و الشر دون انفكاك عنهما ..فلا يمكننا رفع الشر عن الخير .. فلا معنى للخير مالم يصطدم بالشر ..فهذا الديالكتيك هو أساس فلسفة الأخلاق .. كان يدرك جيدا لا خلاص لنا في هذا الوجود من أي تناقض يواجهنا في دنيانا ..السعادة تلتمس دائما الألم .. و الحرية تقابلها العبودية .. و الديمقراطية تقابلها الفاشية .. و تلك الديدان التي تتحرك حول قطعة اللحم تحركها روح غامضة يصعب إدراك كنهها فهي لم تولد ذاتها إن هناك قوة فيما وراءها ..إننا نعيش في هذا الوجود و لا نستطيع إدراك فيما وراء ماهيته .. ولا يستطيع فكرنا الوصول إليه مهما أتينا من معرفة .. فمعرفتنا بتحرك تلك الديدان لن تصل إلى تفسير إلا ظاهريا عقب المشاهدة .. نحن ندرك الظواهر فقط دون أن نصل إلى المعرفة الممكنة لأننا نحيا في وجود لا متناهٍ لن يوصلنا إلى معرفة بماهية وجودنا ..كان يقول لنفسه :متى أرى تلك الوجوه التي غابت عن قرب من حولى .. كان يرى هذا الاعتقاد في العودة ثانية أمرا من ضرب الخيال في العودة ثانية .. فالعدم خارج عنا ..أين أحبابنا الذين كانوا يلتفتون حولنا .. لم يعد لهم من أثر ..لقد رحلوا في غير رجعة و لم يتركوا آلا الحسرة من حولنا ..فالموت نهاية حياة وجودنا و لن يبقى لنا سوى التصور .. كان لديه إدراك تام بأن الماهية ليست جزءا من وجودنا إنها تحلق بعيدا عنا .. أما مايسمى بالروح ما هو إلا إرهاص منا فليس لنا القدرة على إدراك كنهها ..إننا خلقنا هكذا و سوف ننتهى دون علم منا ..كان لديه إدراك تام أن الحياة لغز يفر من حولنا مهما أتينا من معرفة و علم لحله .. فالعلم ليس سوى إدراك للواقع من حولنا ..ليس لنا وعي مافوق الوجود .. وتصورنا للآلهة لا يبتعد كثيرا عن إدراكنا لملامسة الواقع من حولنا .. فلا شيء خارج معرفتنا الوجودية يمكننا الوصول إليه .. فرب (موسى )لايمكن لموسى ملامسته فهو خارج الوجود الكوني ..لو ظهر الله ( لموسى ) لانتفى كونيا أن يكون إله ..لا أحد يلامس الكون إلا الإنسان .. هذا الإنسان خلق على الأرض ليلامس الوجود خيره و شره .. إنه يعيش تراجيديا وجودية في أن يلامس المتناقضات .. وهي سر تعاسته الوجودية .. إنه الحيوان الوحيد الضاحك ليطرد المأساة من حوله .. نهض من أمام المشهد و لم يجد تفسيرا له وقفل راجعا إلى أسرته التي كانت تنتظره فقد طال غيابه عنهم عندما كان غارقا في تأمله اللامجديْ، ظل تراوده رؤية أن الحياة اشتقاق من العدم فلا حياة بدون عدم العدم يتسرب إلينا كل لحظة ..

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :