محمود السوكني
أكثر الألفاظ تداولاً ، وأكثرها استعمالاً وأصدقها تعبيراً عن كل الحالات التي نمر بها ونعيشها في كل مكان نرتاده ، فهي لصيقة بنا في البيت والشارع وأماكن العمل ، في مناسباتنا ولقاءاتنا ، في داخلنا وخارجنا، في كل شؤوننا فالأفكار تزدحم ، في رؤوسنا، وتسكن عقولنا عن القادم من الأيام وماذا تخبيء لنا، وهل يمكن لنا تحقيق مايجول في الخاطر ، وكيف ؟ وقد أشتط بنا الخيال وجنح نحو البعيد واللا ممكن؟ و..القلب “مزدحم” هو الآخر بكم من الأحلام يرفل في نعيمها، ويستطيب وقائعها دون أن يعيش أحداثها التي تظل غالبا أحلام يقظة صعبة المنال بعيدة عن الواقع !
“زحمة” العيون التي تصدمك في الشارع بنظراتها المستفزة التي تتبعها “زحمة” الألفاظ البذيئة والكلمات النابية التي لم نتعودها تخترق طبلة الأذن وتجرح أحاسيس المارة ممن أجبرتهم أو أجبرتهن الظروف على النزول إلى الشارع لقضاء حوائجهم ، فإذا بهم وبهن يواجهون سيلاً من العبارات التي تخدش الحياء ولا تعطي للطريق حرمته ، يعتقد بعض المتفوهين بها أنها تنم عن بطولة ورجولة ، فيما يراها البعض الآخر أنها تدخل في باب الغزل ودغدغة عواطف الإناث من المارة تحديداً وكأن قائلها لا أم له ولا أخت ولا قريبة يخاف على عرضها ويذود عن شرفها !
“زحمة” في كل مكان ، حتى في البيت ولو كان عدد أفراد الأسرة قليل ، فالصدور “مزدحمة” بالمطالب التي لا تنتهي ، من مأكل وملبس وخلافه ، طلبات ورغبات بعضها ضروري جدا وأغلبها لا ضرورة له وأصبح بحكم العادة من الأساسيات التي لا فكاك من تلبيتها ولا يهتم طالبوها معرفة مصدر تحقيقها ولا يهمهم من أين تغطى تكاليفها !
وفي العمل “تزدحم” الأوامر وتتعدد التكليفات وكلها تصبغها صفة الاستعجال وجميعها تشترط الدقة في التنفيذ والسرعة في الإنجاز ولا يشغل بال رؤسائك الحالة النفسية التي تمر بها والظروف القاسية التي تعانيها والكم الهائل من المشاكل التي تواجهها والمقابل الشحيح الذي تتقاضاه مقابل ذلك الجهد الذي تبذله من أعصابك وصحتك وعمرك الذي يذبل دون طائل !!
حياة “مزدحمة” بالمتاعب لا متعة فيها ولا خلاص من براثنها ولا فكاك من قيودها ولا راد لمصائرها التي خطها لنا القدر في كتابه المحفوظ سوى اللجوء إليه وحده عالم السر وما يخفى ، أن يغمرنا بعطفه ويحيطنا بعنايته ، ويترفق بنا ، ويجنبنا مذلة السؤال والشكوى إلا إليه ، فهو من ينقذنا من “زحمة” الحياة ويزيح عنّا عبئها الثقيل .