- رواسي عبدالجليل ـ ليبيا
لا زالت زهرة (44) عاماً تعيش في منزل والديها بوسط العاصمة طرابلس، حيث لم تتمكّن من الزواج لإصابتها بفيروس نقص المناعة المكتسب بشكل عرضي أثناء زيارتها لأحد مراكز التجميل قبل ثمانية عشر عاماً.
تكمل زهرة الطريق وحدها بعد زواج كل إخوتها وتركهم لها وحيدة في منزل العائلة دون معيل أو ونيس يقوم بشؤونها، وظلّت تعاني منذ إصابتها في أواخر العقد الثاني من عمرها الإقصاء الاجتماعي والتهميش والوصم، فقد قلت زيارات أخوتها لها خوفاً على أطفالهم وأنفسهم من انتقال المرض، وامتد هذا الوصم حتى حرمانها من حقها في مزاولة عملها كمعلّمة بتهمة المرض.
بالتحسّر ولوم الذات قضت زهرة سنوات التعايش مع الفيروس، وقد حملت أسرتها على عاتقها دعمها مادياً ومعنوياً، تروي زهرة أن وقع خبر إصابتها لم يكن سهلا على عائلتها “كانوا يخافون أن أختلط بأبنائهم، أصبحت أعامل بحذر شديد ولا أغادر غرفتي إلا قليلاً، ومع وفاة والدتي ضاقت دائرتي الاجتماعية حد الاختناق، ثم اهتم إخوتي الذكور وأبي بشؤوني الماليّة وسعوا جميعا لتوفير مرتّب تقاعدي ليّ ليعيلني على ما يلزمني، ولكن الوساطة والمحسوبية كانت على أشدّها وعجزوا عن تحقيق ذلك“.
على الرغم من النشاط المدني الذي يشهده الشارع الليبي منذ عام 2011 في المجال الحقوقي إلا أن مساحة الاهتمام بفئة المتعايشين والمتعايشات مع فيروس نقص المناعة تكاد تكون منعدمة، لا وجود لجمعيات تدعم هذه الفئة ولا وجود لناشطين يسلطون الضوء عليهم، وخصوصاً لو كانوا من فئة النساء اللاتي يكون التعاطي معهن أكثر حساسية ويعانين من وصم أشد.
عبرت زهرة عن مظاهر الوصم التي عانتها حتى خارج محيط العائلة بقولها “بدأت علاقاتي بالأقارب والجيران والأصدقاء بالتقلص والانحسار إلى أن انتهى بي الأمر وحيدة، كما أنه بعد تشخيص إصابتي بالفيروس تم إبلاغ جهة العمل التي أتبعها حتى يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة لدعمي، ولكنني تفاجأت بأنه قد تم فصلي من عملي كونى أشكل خطراً على الصحة العامة على حد تعبيرهم، لأتحول من معلمة إلى عاطلة عن العمل تشكّل خطراً على المجتمع وصحته“.
وبسبب خوف عائلة زهرة من فضيحة انتشار خبر إصابتها، لم تقم زهرة بأي رد تجاه فصلها من العمل، وتركت حقها دون أن تصارع من أجله، وهكذا وجدت نفسها تعيش على مرتّب والدها التقاعدي الذي يبلغ 450 ديناراً فقط منذ وفاته قبل ست سنوات “قبلها كنت أعيش على دعم إخوتي وما يقدمونه لي من مبالغ ماليّة “.
في رحلة بحثي أثناء إنجاز التقرير تواصلت مع المركز الوطني لمكافحة الأمراض السارية بطرابلس لمعرفة عدد الحالات المسجلة لديهم من النساء المتعايشات واللواتي تقدّم لهن الرعاية الصحية من قبلهم لتكون المفاجأة عدم وجود إحصائية دقيقة لعدّة أسباب من بينها الانقسام السياسي، وتأثر عمل المركز بجائحة فيروس كورونا. ووصل عدد المتعايشين المسجلين داخل المركز إلى حوالي 6 آلاف شخص تمثّل النساء بينهن نسبة 35 – 40 ٪ ويقوم المركز بتقديم الدعم الصحي لهن والاستشارات التي يحتجنها في إطار دعمهن للتعايش مع الفيروس.
المنظومة التشريعية في ليبيا لم تقم بتحديث قراراتها ولوائحها لتضمن حقوق المتعايشين مع نقص المناعة، فلا تزال التشريعات سارية بالقانون الصحي رقم 101 لسنة 1973، والتي لم تأخذ بعين الاعتبار مرض نقص المناعة ضمن موادها.
خلال المنتدى العلمي الأول حول ضمان حقوق المتعايشين بفيروس نقص المناعة في مارس من العام 2019 أوصى المركز الوطني لمكافحة الأمراض القطاعات ذات العلاقة بوضع مقترح تشريعات لرفع الوصم والتمييز ضد المتعايشين مع فيروس نقص المناعة. وشددت وزارة العدل في المنتدى نفسه على ضرورة تعزيز السياسات والتشريعات الوطنية ضد هذا التمييز الذي يحرم المتعايشين من حقوقهم، لكن القوانين لم يتم تعديلها حتى الآن، ولم يصدر حتى مشروع قانون.
على المستوى الدولي أصدرت منظمة العمل الدولية مدونة ممارسات بشأن مرض نقص المناعة متضمنة مبدأين أساسيين يرتبطان بالتمييز، أولهما عدم التمييز في إطار كفالة العمل اللائق واحترام حقوق الإنسان وكرامة الأشخاص المتعايشين مع فيروس نقص المناعة، ثانيهما ألا يكون العاملون موضع أي تمييز على أساس الإصابة بالفيروس أو شبهة الإصابة به.
وتشدد مبادئ حماية العمالة، والسرية والمساواة بين الجنسين وفق الاتفاقية رقم 111 لمنظمة العمل الدولية بشأن التمييز على ضرورة الاعتراف بانعكاسات التعايش مع نقص المناعة والتي تجعل المرأة معرضة لخطر الإصابة بالفيروس على “نحو أكبر وأشد من الرجال”، وذلك لأسباب بيولوجية واجتماعية وثقافية واقتصادية، وكلما كان التمييز على أساس الجنس أكبر في أحد المجتمعات، تدنت مكانة المرأة وتأثرت سلبا بالتعايش مع المرض.
وذكرت تقارير منظمة العمل الدولية أن خطر الإصابة بفيروس نقص المناعة يعد سبباً في ظهور التمييز ضد المرأة، وبما أن التمييز ضد النساء في المجتمع عموماً، وكذلك في العمل والتعليم، يجعل وضعهن الاجتماعي متدنياً ويضعف قدرتهن التفاوضية في البيت وفي العمل. فيكن أكثر عرضة للإصابة بالفيروس ويجدن صعوبة أكبر في الوصول إلى الوقاية والرعاية والعلاج، وغالباً ما يعني ذلك أن النساء يتحكمن أقل من الرجال في حياتهن الجنسية، ويصلن أقل من الرجال إلى خيارات التصريح بالإصابة والعلاج.
ويكمن الجزء الأكبر من المشكلة في وضع النساء الأدنى في القانون وتطبيقه، كما تؤدي حالات النزاع وضعف الأطر القانونية وآليات الإنفاذ بحسب تقرير منظمة العمل الدولية إلى تقويض النهوض بالصحة والعجز عن توفير الرعاية والوقاية.
بمرور السنين وتدهور صحة زهرة وجهازها المناعي بات حلم العودة لسوق العمل بالنسبة لها بعيد المنال، وتصف عجزها بالقول “أصبحت حياتي باهتة بشدّة، روتين يومي من التأمل في سقف غرفتي وسماع أصوات الحياة خارج حوائط المنزل، أشد ما آلمني أصوات الأطفال وهم يعودون لبيوت الحي من المدرسة، بكيت لغياب التفاصيل التي كنت أعيشها بشكل يومي ولم أقدّرها حينها، حزنت على كل يوم تذمّرت فيه من عملي“.
الإدماج الاجتماعي للمتعايشين مع نقص المناعة كان أبعد ما يكون عن اهتمامات الجهات المختصة، والتي اكتفت بتقديم بعض الرعاية الصحية ومدّهم بالعلاج اللازم، تقول زهرة “بعد تشخيص إصابتي تم تسجيلي كمنتسبة للمركز الوطني، والذي تابع حالتي الصحية ومدّني بأدوية المناعة اللازمة، كنت أزور المركز بشكل شبه أسبوعي، أتردد على العيادات الخارجية لإجراء الفحص الدوري والحصول على الدواء المتوفّر، أما ما يعجزون عن توفيره كنت اتوجّه إلى الصيدليات الخاصة للحصول عليه“.
تركيبة مجتمع المتعايشين أمر يعجز الأصحاء عن إدراكه أو تفهمه حسب وصف زهرة “من خلال ترددي على العيادات الخاصة بالمركز الوطني استطعت تكوين بعض الصداقات مع شريكات المرض، العلاقة بيننا يملؤها الأمل والترقّب والخوف، نتعايش بدعمنا لبعضنا البعض، ونؤازر بعضنا حين يخطف الموت إحدانا“.
وبتقدّم العمر زادت العقبات اليومية التي تواجه زهرة، وبغياب الجميع من حولها انتهى أمر الدعم المعنوي الذي تحتاجه للاستمرار تكمل بحزن حديثها “مع تقدمي في العمر زادت احتياجاتي الجسدية الصحية، والمالية نتيجة لهذا، لا أستطيع إحصاء كم ليلة نمت فيها دون أن أقتات حتى الخبز الحاف، إننّي أخشى الموت وحيدة، يزورني إخوتي وأبناؤهم بتقطّع، يحاولون مواساتي بالقليل ولكنهم آخر الأمر يخشون على أنفسهم ما يجعلني أفضّل وحدتي على وجودهم القلق بجانبي، الوحدة أهون عليّ من نظرة الرعب في أعينهم“.
ختمت زهرة حديثها “منذ اليوم الأول مع مرضي وأنا مؤمنة بأن الحياة تختبرني في ذاتي ونفسي وصبري، ولم أفقد يوماً الأمل والتفاؤل وسأظل صامدة في وجه المرض، متمنية أن لا يعيش أي أحد ما عايشته“.
………………………………………………………………………………………………….
تم إنجاز هذه المادة ضمن مشروع “الأحداث كما ترويها الصحفيات” المدعوم من هيئة الأمم المتحدة لدعم المرأة والمنفذ من قبل أكاديمية شمال أفريقيا للإعلام.