- د.محمد فتحي عبد العال كاتب وباحث وروائي مصري.
حديث الذكريات: في حياة كل منا ذكريات تبقى محفورة داخلنا وصور تحفظها عيوننا وحنين أخاذ داخل صدورنا وأشواق وإن أخفتها كلماتنا نضحت بها مآقينا إنه أرث الماضي الجميل حيث الحب البريء والصداقة الحميمة وذكريات الطفولة والدراسة واجتماع العائلة وأماكن أتيناها وارتحلنا عنها …إنها عزاؤنا الوحيد أحيانا حينما نقف عاجزين أمام تحديات واقعنا فيأخذنا الحنين إلى خزينة ذكرياتنا بحثا عما نسري به عن أنفسنا وإن لم نجد فإننا نجد أنفسنا بلا شعور منا ننسج هذه القصص ونغزل خيوطها شيئا فشيئا لتعوضنا عن قسوة الحياة إننا لا نغير التاريخ ولكن فقط ندفع عن أنفسنا قسوة الحياة ..كلنا مررنا بهذا ولكننا ربما لم نتوقف عندها للحظات من التأمل فكلما استرجعنا واحدة من ذكرياتنا فإننا في حقيقة الأمر نعيد تشكيلها على نحو قد يكون مغايرا لحقيقتها أحيانا وهذا هو سراب الذاكرة أو تشوهات الذاكرة. سراب الذاكرة: كانت أول إشارة لهذا المصطلح في كتاب علم النفس لإدوارد فيشنر عام 1928 وكذلك لدي سيجموند فرويد وإن لم يستخدم مصطلح سراب الذاكرة حيث اعتبر أن ذكريات الطفولة المليئة بالقمع تختبئ في حالة اللاوعي ثم تعود لتطفو على الحياة مرة أخرى بشكل يصعب تمييزه عن الأوهام في مرحلة متأخرة من العمر. كما أشار إلى وجود نوعين من تشوهات الذاكرة :الأول- هو اعتلال الذاكرة على نحو لا يمكّنها من التفرقة بين الذكريات الحقيقية والوهمية. والنوع الثاني- هو الذكريات الحاجبة وفيها يحدث إحلال ذكرى محل أخرى بما يواريها عن الوعي. أنواع الذاكرة : تنقسم ذاكرة الإنسان إلى نوعين :الذاكرة قصيرة المدي (الفورية ) immediate memory والتي تحمل كمية قليلة ومؤقتة من المعلومات وهي ذاكرة عملية كأن يرى المرء مشهدا جميلا وتمر به رائحة ذكية أو أن يتذكر نتيجة أهداف مباراة حتى تتغير .. والذاكرة طويلة المدى long term memory وتنقسم إلى قسمين هما : الذاكرة اللاواعية والمتعلقة بالمهارات الحركية مثل قيادة السيارة وتعلم بعض الفنون كالعزف على البيانو. والذاكرة الواعية حيث حفظ المعلومات الشخصية واليوميات التي نعيشها و تتضمن الذاكرة الوقائعية (خاصة بالوقائع والأحداث كالحصول على أول شهادة دراسية ) والذاكرة الدلالية (الحقائق والمعلومات العامة مثل الجزائر عاصمة الجزائر ). بداية الاكتشاف : وقد كان اكتشاف هذه الأنواع من الذاكرة عام 1953 حينما أزيلت أجزاء من المخ مسؤولة عن الذاكرة لمريض مصاب بالصرع يدعى هنري مولاسون . ومن بعدها أصبح مولاسون مادة خصبة لدراسة الذاكرة فقد كان باستطاعته تذكر ما مر به منذ أحد عشر عاما إلا أنه لا يمكنه استرجاع ما حدث له خلال عامين قبل العملية! وعلى الرغم من احتفاظه بالذاكرة طويلة الأمد إلا أنه يستطيع لعب الشطرنج بمهارة لكن لا يمكنه تذكر متى تعلمها ؟! السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا :متى يحدث التغيير في ذكرياتنا ؟ بالطبع الإجابة خلال نومنا فذاكرة الأحداث قصيرة الأمد تخزن في منطقة من الدماغ تسمى hippocampus ( الحصين ) بينما تخزن الذاكرة طويلة الأمد في neocortex (القشرة الدماغية ) وخلال النوم يحدث ترسيخ ودمج الذكريات والأفكار عبر انتقالها من الحصين إلى القشرة الدماغية وتعرف هذه العملية بتوطيد أو تصلد الذاكرة memory consolidation في الدماغ إذ أن خيوط النوم المغزلية sleep spindles والمرتبطة بتوطيد الذاكرة وهي نوع من موجات الدماغ تحدث بشكل مغزلي أثناء مراحل النوم الأولى المعروفة بعدم وجود أحلام أو عدم وجود حركة سريعة للعينين وكلما زادت هذه الموجات زادت قدرة المرء على التذكر في اليوم التالي. ولأن التمثيل الذهني للحدث عادة ما يتشكل في اليوم التالي لحدوثه بعد إعادة بنائه وصياغته أثناء النوم فهذا يفسر ما يصيبنا أحيانا من سراب الذاكرة. رؤيتان لحادث واحد ..وهم أم حقيقة ؟ لذلك فلا تتعجب من رؤيتين مختلفتين لشخصين حول حدث واحد وكلاهما على حق فهناك اختلافات فردية قوية في كيفية تذكر الناس وقدرتهم المتفاوتة في نقل التفاصيل فكل شخص يسلط الضوء على الأشياء التي تهمه وفق ميزان خاص للتقييم يختلف من شخص لآخر حول أهمية الأحداث وفق فائدتها. لقد صدمنا العلم في أعز ما نملكه من ذكريات كانت بمثابة الجوهر الذي نرتكن عليه دوما.
المراجع : 1- مقال سراب الذاكرة ماذا الذي ينتقيه الدماغ للاحتفاظ به وكيف؟ للباحثة فلانتينا شيرنشيفا 2- كتاب سراب الذاكرة للباحثة جوليا شاو.