شباب ليبيا وحلم الهجرة وواقع البلاد

شباب ليبيا وحلم الهجرة وواقع البلاد

 تقرير : مباركة مسعود الزروق. “

” خلي نطلع نعيش هالوقت دور علي مصلحتك

 هي أول الكلمات التي صافحت أذني من علي زايد ابن الـ 23 ربيعا ,حين سألته عن سبب قبوله للهجرة خارج البلاد, لا يهتم علي بمصيره فالحياة والموت متساويان عنده. وتابع الحديث أثناء سيرنا قرابة عشرة دقائق إلى المقهى المعتاد قضاء الوقت فيه القابع شمال مدينة سبها يترددُها العديد من فئة البطالة ومروجي الهجرة والتجارة فَالمكان تفوح منه رائحة السيجارة والويسكي, كما تبدو ملابس بعضهم رثة مقارنة بملابس تلك الطاولة الشاغرة من التجار ورفاقهم.

حين دخل علي جلس منفردا على إحدى الطاولات المطلة على الشارع المكتظ.. فَبجانب المقهى يوجد سوق غذائي وفي الجهة المقابلة محلات للأجهزة الإلكترونية وتليها ملابس وأحذية..

ويقص علي بعد تخرجي من قسم الحاسوب كلية العلوم سبها سنة 2015. أصبح شغلي الشاغل التسكع مابين الشوارع هنا بدأ يشعلُ سيجارته وهو جالس قدما على قدم وينظر إلى الأعلى والحيرة تنهش فكره, فَوَاصلَ تارة أبحث عن عمل وغالبا أقضي جُلّ وقتي هنا مشيرا إلى الطاولة, فقلة السيولة والبطالة وأخبار الخطف والموت كانت سببا في تأجيج فكرة الهجرة في رأسه.

وبَعدَ ساعتين فجأة طلب أن نبقى صامتين, ذلك لأنه سيلتقي بِأحد المهربين ..دقائق معدودة وأقبل شخص تبدو ملابسه حسنة المظهر, طويل القامة وعيناه واسعتان, شعره متجعد قليلا يصل إلى رقبته, ولديه لحية كثيفة.. تَوهَان وموتٌ فكري للشباب لا مَحالة هذا ما قاله أكاي “المهرب” بعد ترحيبه بِعلي, أخذا يتناقشان حول الرحلة فَعليّ كان شغوفا وأَمارَات الفرح تُهلْهل على وجهه بينما أخذ أكاي يُدخن أرقيلة بطعم النعناع وهو فارد كامل جسده على الكرسي, من بين الحديث جاء اتصال إلى المهرب, يخبره بأن أحد المراكب التي تحت سيطرته قد انطلقت الآن من صبراتة متجها إلى إيطاليا بقيادة أحد معاونيه, أنهى اتصاله والرضا يداعب ملامحه, تابع حديثه مع عليّ ليقول كُلّ ما عليك هو أن تدفع 300دولار ولا تهتم سأؤمن لك أفضل القوارب ومع أحسن القادة فقط لأني أدرك أن هناك حياة حلوة بانتظارك وأنت تستحق ذلك.

 انتهت المقابلة و خرج المهرب في أوج سعادته في ضحكة ساخرة من عليّ, لا ينسى علي هذا الهم فالقلق يملؤه مفكراً كيف يدبر هذا المبلغ بينما ينفث دخان سيجارته الخامسة مشكلا به قلبا في السراب ويحاكي نفسه بنوع من الاضطراب “إن اللي قبلي مادارو شي بالشهادة” محاولة منه أن يطمئن نفسه

فَنرى قصة علي هي واحدة من بين عشرات الليبيين الذين يخططون أو بالفعل هاجروا خارج البلاد نتيجة للاضطراب الأمني ومشاكل العمل والسيولة الذي لعب دور البطولة فيها,الأمر نفسه الذي سيدفع الأجيال الشابة إلى مغادرة البلاد عاجلا أم آجلا,هذا ما أوضحه خفر السواحل الإيطالي بأنه في سنة 2015 وصل العدد ل 1678 مهاجرا ناهيك عن هؤلاء الذين يخفون هويتهم لأن السلطات في إيطاليا تشتبه في أن أي ليبي يعمل ضمن شبكات التهريب. “

 أوروبا الحل السحري وتستحق المخاطرة “

هكذا حدثنا محمد عن بداية قصته مع الهجرة. محمد من تاورغاء يبلغ من العمر 19عامًا خرجتُ عقب سقوط النظام السابق عام 2011 خوفًا من التعرض للقتل والقمع والذل الذي تعرض له أهالي منطقتي بسبب الخلفية الاجتماعية، فَبمساعدة عائلتي دفعت 650 دولارًا ثمنًا لأحد القوارب البالية للسفر إلى أوروبا انطلاقا من زوارة لبدء رحلة قوارب الموت هكذا وصفها محمد وهو شاحب الوجه نحيف الجسد و قد احتل الحزن قلبه والتشرد يعتلي ملابسه ,غادرنا في الثانية صباحا كان عددنا أضعاف حمولة القارب فكنا 300 مهاجر مابين نساء وأطفال وشباب من مختلف الجنسيات في قارب متهالك, تجاوزنا العدد المسموح به.

ويروي نفد الوقود من القارب فتوقف وانقلب في البحر الهائج ,هنا خنقته العبرة واضعا كفيه على رأسه متألما مما رآه فالموت غرقا وصراخ أحدهم يدعوك أن تنقذه كان مصير أحلام الكثيرين, يلتفت محمد ودموعه كالشلال لم أستطع تهدئته يردد مذعوراً لا أستطيع أن أصف بشاعة المنظر.

يغالب محمد دموعه ويسترسل وصل الناجون منّا إلى جنوب إيطاليا في رحلة استغرقت يوما كاملا لسوء حال القارب ثم التقطتنا السفينة الحربية لخفر السواحل الإيطالي بتقنية الرادار المتطورة, حين وصلنا الميناء سجدت على حافة الرصيف وأنا في حالة من النشوة لا أصدق وصولي. وبقية القصة معروفة فالإيطاليون يأخذون اللاجئين باتجاه مراكز إيواء خاصة بالمهاجرين غير الشرعيين، ليحصلوا هناك على معونات هزيلة. سافر للبحث عن حياة أفضل لكنه لم يحقق أيًا من طموحاته اكتشف صورة مغايرة فقد تعرض للسرقة إلى جانب الصقيع والجوع فالوجبات لا تكفي الجميع فكانوا يتقاتلون للحصول عليها والخوف من الأمراض المعدية كانوا يتعاملون معنا بحذر “قفازات وكمامات” لكن ليس باليد حيلة، يقول محمد متنهدا بعمق حياتي كانت أفضل وعلى الرغم من أن مدة بقائي لم تتجاوز السنة وقضيتها دون فائدة تذكر. ويواصل ساخراً «نحن نعيش الحلم الأوروبي»

مشيراً إلى المخيم الذي يضم مئات اللاجئين من تشاد والسنغال والصومال يربط الماضي بالحاضر ويقارنه قائلا: ياليتني بقيت في ليبيا, ويرجع به الزمن لينبض بذكرياته مع أهله والأصدقاء كان يتشاركها معهم في محطْ خياله فقط.. ولعلّ ما ذكرته السيدة عائشة وهي على مشارف الخمسين عاما من براك الشاطئ والدموع تترقرق من عينيها المتورمتين على ابنها ربيع الذي طالما أراد العيش في أوروبا لم يكن أمامه سوى السفر والمغامرة ,فهاجر موطنه وهاجر قلبي معه وفي كلمات تعيقها الدموع اقشعر بدنها وهي تقول ربيع وُجد مرميّا في البحر منذ أُسبوعين مما زادها غرقانا في بحر من الآلام ،انفطر قلبي على وحيدي في ظل ظروف لا يد لربيع فيها إلا أنه أراد حقه في العيش, كلمات تمتمت بها عائشة والدة ربيع.

وحسب ما أوضحه العقيد طارق شنبور مدير الإدارة العامة لأمن السواحل ورئيس غرفة العمليات الليبية الإيطالية المشتركة إلى شبكة الجزيرة الإعلامية في 3/9/2017 أن 46 ألف مهاجر غير نظامي وصلوا هذا العام للسواحل الإيطالية انطلاقا

من السواحل الليبية, وفي ديسمبر عام 2016 أوضحت وزارة الداخلية لبوابة أفريقيا الإخبارية أن عدد الشباب الليبي الذي خرج من صبراتة هجرة غير شرعية لأوروبا فاق 170 شابا فلا توجد إحصائية بالعدد الكلي والأرقام في تزايد ووفقا لما بينه الناطق باسم منظمة الهجرة الدولية جول ميليان بأن أكثر من 2250 مهاجرا قتلوا أو فقدوا على سواحل ليبيا خلال 2016 ، ففي المقابل نرى تقاعسا من الدولة ومؤسسات المجتمع المدني في ظل هذه الظروف التي تعتري الشاب الليبي. عودة إلى علي بعد وفاة أمي حوالي سنه تقريبا من الآن تزوج والدي مرة أخرى,

صار يضربني من غير أسباب، كمدات زرقاء زينت ساقي اليمني يتحسسه علي والخيبة تلمحها في عينيه, لايهتم أبي برجوعي ولا أنسى تعنيفه لي بأبشع الكلمات جمل قالها علي وهو ملتويٌ على نفسه ورأسه بين ساقيه, لحيظات صغيرة ويومئ إليّ وعيناه تبرقان بشدة, مؤمناً أن الحظ سيكون حليفه في هذه الرحلة.

نترك علي مع تطلعاته الإيجابية وكله أمل في حياة وردية كريمة, فبنظره يرى طريق مستقبله زاهرً في الهجرة لأوروبا. هكذا ينتهي الحديث, ولا تنتهي الصورة من التجدد, ولاحتى القصة تتوقف! فتراودني الأفكار مرارا, هل قرار علي صائب ؟

وإلى أي مدى يمكن تدارك حلم بأكمله لازال حيا في نفسه وفي باقي من دفنوا في الحياة عنوة؟ هل ننتظر الحل الموعود؟ أم نتركهم للْخيم والتَخفّي خِلسة من خفر السواحل؟

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :