عمر عبدالدائم
الشعوب الشرقية شعوب عاطفية بطبيعتها ، لذلك تتسم تصرفاتها (الفردية والجماعية) بكونها ردات فعل عاطفية أكثر مما هي أفعال صادرة عن تفكير عميق وتحليل لأبحاث ودراسات توصل بالضرورة لنتائج منطقية.فعلى الصعيد الجماعي تُساق الشعوب الشرقية كالقطعان من قبل رجل دين او زعيم سياسي ليفعل بها ما يشاء على مذبح الحرية أو مقارعة الأعداء أو الجهاد في سبيل الله..وعلى الصعيد الفردي نجد الشرقي يحسب حساباً للشيخ وللساحر أكثر بكثير مما يحسبه للقانونهذه السمة تنسحب على الإدارة بشكل عام، ففي حين نجد الإدارة الغربية (الخاصة والحكومية) تُعنى بالتخطيط الاستراتيجي لأعوام عديدة -وربما لعقود-قادمة ، فتطرح الخطط متوسطة وبعيدة المدى وفق دراسات مبنية على البحث العلمي الإحصائي والاستقصائي وبذلك تكون مراكز البحث العلمي في سلم اولويات اهتمامها.. نجد الإدارة في العقلية الشرقية تتخبط في خطط عشوائية وقتية هي اقرب لأن تكون معالجات لمشاكل يومية منها لخطط استراتيجية، فالإدارة الحكومية على سبيل المثال لايهمها كثيرا ماذا ستكون عليه حال البلاد بعد خمسين سنة من الآن وماهي الخطط التي يجب ان توضع لجميع مناحي التطور الطبيعي من خدمات و بُنى تحتية وفوقية..ولذلك نجد معظم دول الشرق تعالج اليوم مشاكل الأمس دون التفكير في الغد الذي هو – بحسب تفكيرها العاطفي- في علم الغيب. المشكلة ان فكرة المعالجة اليومية الترقيعية تستمر لعشرات السنين بل لقرون عديدة دون ان تنتبه الشعوب العاطفية إلى ان الغد الذي كان في علم الغيب صار ماضياً سحيقاً..والإدارة السياسية ليست استثناء في ذلك ، ففي الوقت الذي يعتبر الرئيس بالنسبة للشعوب الغربية موظفاً على رأس الهرم السياسي للدولة مكلفاً بإدارتها وفق ضوابط معينة ويمكن إذا ما أخل بهذه الضوابط محاسبته ومساءلته بل و تنحيته، نجده في نظر الشعوب الشرقية (العاطفية) الزعيم المُلهَم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.ولا عجب أن نجد الرئيس في تلك البلاد يفخر أنه استمر في الحكم وأطاح(زمنياً) بعشرة رؤساء لأمريكا..وربما بسبب تغليب العاطفة فشلت – في معظم الحالات – تجربة استنساخ واستجلاب الديمقراطية الغربية (العقلانية) وتطبيقها في بلاد الشرق، حيث أن المستجلَب كان قشور الديمقراطية لا لُبّها..فالديمقراطية الغربية منظومة متكاملة تبدأ بالشفافية ورفض الفساد ومراقبة المال السياسي ولا تنتهي عند حرية الصحافة والرقابة الدستورية والفصل بين السلطات وقوة الرأي العام ونزاهة القضاء…ولا يمثل صندوق الاقتراع (الذي نتباهى به) إلا أصغر الحلقات في سلسلة الديمقراطية ولعله آخرها.المثال الليبي يبدو واضحاً في شرقيته ، فالتاريخ الدموي الذي شهدته هذه الأرض منذ أكثر من ثلاثة قرون، سواء كان كفاحاً ضد مستعمر دخيل أو حروباً اهلية بين المناطق والقبائل أو مشاركة في صراع عائلي على السلطة(كما في زمن القرمانليين) ماهو إلا استجابة لنداء عاطفيّ يُملي على الشخص حمل سلاحه وتوجيهه نحو الآخر (بغض النظر عمّن كان هذا الآخر و عن عدالة القضية وقدسيتها).العاطفة وحدها من جعلت جموع الليبيين تبارك الملك ادريس وتمنحه الولاء والهيبة والمكانة التي حظي بها. والعاطفة وحدها من جعلت نفس الجموع تخرج مباركة ومؤيدة للمدّ القومي الذي أطاح بالملك ادريس نفسه.والعاطفة وحدها هي من شكّلت تلك الجموع التي خرجت ضد معمر القذافيوبالعاطفة أيضاً يأخذ الآن الحنين معظم الليبيين لأحد العهدين. وما صاحبَ السنوات الأخيرة من انجرار نحو خطاب الكراهية من قبل كثير من الناس ممن ليس لهم مصلحة في ذلك ما هو إلا دليل على ان للعاطفة لا للعقل ولا للتفكير المنطقي التأثير الأكبر في حياتنا…و ربما هي العاطفة من تجعلنا اليوم نضحي بأولادنا في حروب بينية خاسرة .. ثم نُسلّم الوطن ،وهو في غاية الإنهاك، على طبق من ذهبللغريب..ومازالت العاطفة سيدة الموقف ، فالشعوب الشرقية مستعدة لأن تقبل دائما بالعيش المتدني غير اللائق بالإنسان مقابل الأماني والوعود .. دون تحقيقها.