هند الزيادي
أختتم هذه السنة برواية لا تشبه الروايات. شنڨرارا… رواية ظلمها الناشر وظلمتها الجغرافيا وحرم منها القارئ التونسي بما أنه لم يسعه أن يطّلع عليها ،فقد نُشرت في دولة الإمارات، ولم تلق حظها من العرض في معارضنا التونسية بحكم محدودية النسخ التي كانت تشحن.
الكاتبة هي راضية الشهايبي ابنة القيروان وتاريخها الصوفي، إحدى أهم شاعرات تونس ومؤسسة لعديد التظاهرات الشعرية التي حققت إشعاعا محليا وعربيا وترجمت الكثير من قصائدها إلى لغات أخرى. قدمت إلى الرواية إذن من عالم مضمّخ بالشعر. وهذه هي عملها الروائي الأول الذي ظلّ يختمر ويتعتق في مخبرها السردي لسنوات تقارب الثمانية.
وقد شكلت هذه الرواية تحديا شخصيا للكاتبة في داخلي، لأنني من الكتاب الذين يؤمنون بشدة بمبدإ الاقتصاد في اللغة ويحترزون من الشعر الذي قد يشكل عبءا على الرواية فيثقلها ويعرقل مسار نموها. لكن هذه الرواية شكلت استثناء لافتا للانتباه وجديرا بالانكباب على دراسته. وهذا حصل بالفعل لأن العديد من النقاد قد كتبوا فيها مقالات تجدونها على النت إذا ما رغبتم في البحث.
ولكي نفهم الأمر لابد لنا من فتح علبة أسرار الرواية لنحاول استكناه ما أخفته علينا.
الكاتبة راضية الشهايبي اختارت أن تعطي للقارئ البسيط حكايته فإذا هي تجبرنا على السير على نصل اللغة نتابع تارة حياة مها المرأة التي تطمح إلى تخليد قصتها من خلال انتظارها لأحد فرسان الكلمة لينقذها ويسرد تلك القصة ويقدر على فك أسرارها. لكن مصطفى وسميح المدوري ورمزي وأنور وفيليب الروائي الأجنبي كلهم عجزوا من حيث أرادوا استخدام الكتابة لتدوين القصة وترميم ذواتهم المعطوبة. فلم تنقد لهم الفكرة ولا استطاعوا الإحاطة بالمرأة/الوهم. تستخدم الكاتبة السرد هنا وتستدعي تراث القص العربي والعالمي من خلال أسطورة بروموثيوس وناره المقدسة وتستدعي شهرزاد وحكاياها والسندباد ومغامراته لتحتفي بالقص بما هو فعل المقاومة الأول للفناء ، بما هو حفر في اللغة والتاريخ والخيال ،أساسا.
الكاتبة تتسلل تدريجيا إلى هدفها الحقيقي وهوخلق رواية متفكّرة في ذاتها منكفئة عليها تتأمل اطوار خلقها وأدواتها فتستخدم السرد لتقدم لنا شخصية “شنقرارا” إمرأة تشبه شخصيات الأساطير،” تعيش حقيقتها داخل ذاكرتها أكثر مما تعيشها خارجها” / ص21
هي الأنثى الرواية التي تناسلت من الفكرة. لذلك لا نكاد نعثر على مكان أو زمان لأنهما طبقات تتراكم حتى تصل إلى التاريخ المطلق وتجعل الرواية/الحكي فعل إنساني منفلت من قيد الزمان موغل في التاريخ متزامن مع الخلق نفسه، ضروري للاستمرار كما كانت الحكايات التي قصها الأولون بالصور على حيطان مغارات لاسكو وجعيتا وغيرها… ولأن الرواية بما هي فن هي الموضوع الحقيقي لهذه الرواية فهي قد انكفأت على ذاتها تتأملها مموقعة نفسها بالتالي في سرد ما بعد الحداثة متخذة من اللغة معول الهدم فيها وإعادة البناء.
ولأن هدفها الرئيس هوالتأمل في فن الرواية، فقد جعلت الكاتبة من فعل القصّ تأمّلا في اللغة، لعبا مع اللغة.وتحولت الكاتبة إلى طفلة كبيرة لاعبة بالحروف والكلمات فتفصل الدوال على مدلولاتها وتبعثر المعنى لتعيد خلقه من جديد مؤسسة لصور جديدة غريبة عن القارئ. وهنا بالذات يأتي دور الشعر. ويكمن مبرر استخدام الشعر في هذه الرواية بالذات بل سبب قبولي لقراءة هذه الملحمة الشعرية (إن جاز التعبير). في الشعر تتحرر اللغة من مواضعاتها التقليدية ومن زمانها ومكانها وتلج فضاء مطلقا أساسه الحرية فتتحول اللغة بين يديها إلى صلصال للخلق الأول عودا على بدء. فتقول في صفحة75:” أهذه هي الذروة التي لا تكون الرواية إذا لم تكن بينها وبين الرواية؟
أهذا هو البوح حين تتألق الرواية؟
أهذا هو السرد حين يتحول الكاتب إلى شبه قدر مسلط على شخصياته التي يشكلها بما في أعماقه من لوعة؟” .
تستخدم الكاتبة اللغة لتطرح مجموعة أسئلة عن المعنى والصور والأفكار التي تشكل المادة الخام للرواية ولفعل القصّ فتقول :”لمَ يظلّ المعنى مهاجرا بلاصورة؟ وتظل الصور تائهة عن معناها؟ لم تظل الموجودات تبحث عن أوتادها وثباتها وتهيم المعاني في ثباتها من دون وجود؟“
الرواية متحررة تماما من قيدي الزمان والمكان مهوّمة في عوالم الغموض تماما كشنقرارا التي لا نكاد نعرف من أين نبتت في الرواية فجأة. ومن أجل تطويع ذلك الغموض ليس أجمل وأكثر نجاعة من الشعر بما هو جرأة على المألوف وكسر لكل قيود المعنى وتأسيس لصور جديدة وإمكانات جديدة لا محدودة في عالم الخلق والإبداع. لذلك فإن الشعر هنا لم يثقل الرواية ولم يحولها إلى قماشة سردية مترهلة ، بالعكس. لقد خصّبها وضخ فيها من روحه ومن عنفوانه وحفر في طبقات معانيها ليولّدها من العدم.
وهنا ترتقي الكاتبة بفعل الكتابة إلى مرتبة صوفية وتحول الكاتب إلى مريد للمعنى يهوم في مداراته فلا يدركها ويستعذب ذلك العجز فيحوله إلى نحرك لمزيد من التهويم والبحث. وتستحضر الكاتبة تراث القيروان الصوفي وأساطين الصوفية فتحيلنا على محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري وعبارته الشهيرة “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ” هذه التي تجيد تصوير عجز الأنسان عن الإحاطة بكل أسرار الوجود والتعبير عنها، فالكلمات كما في هذه الرواية قاصرة عن الإحاطة بالمعاني والأسرار بينما الرؤية متسعة مطلقة لا حدود لها. حتى أن شنڨرارا/الشخصية نفسها في غموضها تشبه ، كما سبق وقلت، المتصوفة في غموضهم وغيرتهم على حقيقتهم وتخييرهم الإخفاء على الكشف. مكتفين من الحياة بحب الله/ المعشوق راجين قربه و حلو وصاله. وإذا بها بعد وفاة والدها وانعدام السند تبحث عمّن يأصّل كيانها وعمن يكتب ألمها كأن الرواية جنس لا ينبجس إلا من ثنايا الألم ورحم المعاناة، فتتخلى في سبيل ذلك عن أدواتها وهويتها من اجل خلق جديد. تقول أثناء بحثها عن تلك الذات الهائمة مخاطبة نفسها: “إنسي لغتك الأولى وصمتك وستعبرين“.
شنقرارا هي رواية سابحة في نور عالمها الصوفي وما الشعر فيه سوى سراج ينير ذلك العالم. ويهدي خطى الروائية إلى بناء سردي جريء تكابد في سبيل إقامته كل الموروثات السردية القديمة وتخوض باللغة وفي اللغة معركة فنيّة ارتقت بعملها إلى مصاف الكشف والبيان فتحول السرد فيها من مجرد متتاليات حكائية إلى مناجاة صوفية بديعة.
شكرا راضية الشهايبي على رواية تحترم عقل القارئ وتمتعه.