شهاداتُ (القبرُ المتحرك) في حَربِ تشاد

شهاداتُ (القبرُ المتحرك) في حَربِ تشاد

أ :: يونس الفنادي

من ضمن إصدارات الهيئة العامة للثقافة التي انتهيتُ من قراءتها هذا اليوم كتاب (القبرُ المتحرك .. عن حربِ تشاد) وهو مذكرات سجلها وأصدرها ضابط متقاعد بالجيش الليبي العميد/ عمر عياد الوحش عن فترات مشاركته في ساحة حرب تشاد خلال مهمات ميدانية بالجبهة على خط النار.

يونس الفنادي

بلغت صفحاتُ كتاب (القبر المتحرك .. عن حرب تشاد) حوالي مائتين وتسعين صفحة من الحجم الكبير، وتضمنت هذه المذكرات الشخصية جوانب عديدة من المعاناة الإنسانية التي واجهها العسكريون الليبيون خلال حربي تشاد الأولى سنة 1983م والثانية 1988م سواء ما حدث في قاعدة وادي الدوم العسكرية أو مدينتي فايالارجو وفاد في عمق الأراضي التشادية، أو في قرية شريط أوزو الحدودية وقاعدتها العسكرية، والتي تكبد فيها الشعب الليبي وخزانته المالية أموالاً باهظة ومليارات كبيرة مهدورة، وأرواحاً إنسانيةً بريئة عديدة ضاع شبابها وقضت نحبها جراء نزاوت شخصية ونزق إجرامي مارسه العقيد معمر القذافي على أبناء
ليبيا الحبيبة والدول المجاورة معاً.مؤلف الكتاب عسكري ليبي من أهالي قرية (إدري) باقليم فزان جنوب ليبيا نال الشهادة الثانوية والتحق بالكلية العسكرية فتخرج منها برتبة ملازم ثان، متخصصاً في سلاح الدبابات والدروع، ثم انطلقت رحلته إلى جبهة القتال منذ يوم سفره إلى القاعدة العسكرية في وادي الدوم يوم 6 يناير 1987م، فاستهل من بداية هذا التاريخ يومياته الحربية التي يقدمها لقاريء كتابه بقوله (إن هذه يوميات ضابط صغير الرتبة والمنصب أثناء تلك الأحداث والحروب، لذا لن تجد فيها رؤية استراتيجية ولا وثائق مهمة، كتلك التي تتاح لكبار الضباط من قادة الكتائب والمناطق العسكرية والقطاعات. وأيضاً باعتبارها يوميات شخصية لهذا أرجو أن يتسع صدر القاريء لضمير الأنا وتاء المتكلم، فمن يكتب عن نفسه يكون مضطراً لاستخدامهما).إذاً يا تُرى ماذا نجدُ في كتاب (القبر المتحرك .. عن حرب تشاد) ؟يهدي العميد عمر الوحش كتابه (إلى أرواح جميع من قتلوا في تلك الحرب الظالمة) ويقسمه إلى مقدمة وأربعة وثلاثين فصلاً جاءت عناوينها معبرة عن موضوعها بالكتاب وأماكنه وأحداثه وشحصياته في سرد توثيقي متسلسل كالتالي (السفر الى بر تشاد، السفر الى فايا لارجو، الحياة على خط النار، تداعيات فادا، في نقطة القتال الأمامية “واحد واحد”، سقوط قاعدة وادي الدوم، ليس في الأمر هزل، رياح صرصر عاتية في أيام نحسات، صدور الأمر بالانسحاب، تيه جديد بين غابات نخيل فايا، الوصول إلى قاعدة أوغي، الوصول إلى أزوار وأزواركي، عمارات كوكوني ووادي ور، الوصول إلى أرض الوطن، العودة أوزو سنة 1988، في واحة الواو، كرة بين البوابات، في بئر الأربعين، سفر جديد، أيام في طرابلس، أيام بين أدري وسبها وتمسه، غطرسة الصحراء، سياحة لم تتم للواوا للكبير، عجز في ذخيرة الكلاشنكوف، رمضان الكريم في الجبهة، درجة الاستعداد في الحالة القصوى، غذاء في رمضان، عيد وبأي حال عدت يا عيد، زيارة إلى قرية أوزو، الخروج في إجازة، العودة الثالثة للجبهة، تشابه حد التطابق، يوميات بدون تاريخ، إلى الجبهة للمرة الرابعة) بالإضافة إلى الخلاصة الخاتمة له والتي استهلها بسؤاله (تُرى ماذا جنينا من سنوات الحرب في تشاد .. ]ويجيب[ .. لا شيء غير قبض الريح. لا شيء غير أصفار لامتناهية.
لا شيء غير الدماء والأشلاء والدموع والألم، بل بالعكس من ذلك فقد خلّفت أثارها السلبية على الدولة الليبية اجتماعية واقتصادية وصحية وأثقلت كواهلنا، وهزائم مرغت تاريخ القذافي في الوحل).ورغم ما احتواه الكتاب من أخطاء نحوية عديدة فإن (القبر المتحرك .. عن حرب تشاد) يعتبر موضوعياً شهادة قيمة مباشرة تضاف إلى شهادات أخرين حول الكثير من الظروف القاسية والمآسي والأضرار الجسيمة مادياً ومعنوياً التي تعرض لها وعايشها العسكريون الليبيون في تشاد حين زج بهم القذافي في أتون حربٍ شرسة، من أجل أطماعٍ وهمية نسجتها له أحلام جنون العظمة الواهية، وليس كما كان يدعي كذباً أنها دفاعٌ عن الأرض والعرض وتحصينٌ للحدود الجنوبية للوطن.إنَّ الأحداث التي يرويها كتاب (القبر المتحرك .. عن حرب تشاد) ومشاهد الدمار والخراب والخسائر البشرية والمادية التي ينقلها من عين المكان تعد براهين مسجلة عن جرائم إنسانية بشعة طالت الإنسان والمواطن الليبي وكامل تراب الوطن، وأرهقت خزينة المال العام حين أهدرت الموارد النفطية للدولة في حرب خاسرة لم تكن هناك ضرورة للانغماس والتورط فيها، وهذا ما خلص إليه مؤلف الكتاب من خلال شواهده العديدة التي من بينها تصويره لمشهد انسحاب الجيش الليبي من تشاد بعد سيطرة القوات التشادية على قاعدة وادي الدوم وسقوطها واحتلالها وما تكبدته قوات الجيش الليبي في صفوفها من قتل وأسر خلال هجوم مباغث أعتبره المؤلف صادماً لكل العسكريين والقيادات، وباهض التكلفة من جميع الجوانب البشرية والتعبوية والاقتصادية والقتالية، التي تردت وتراجعت كثيراً جراء إهمال وفساد القيادات العسكرية ذات القرار في التخطيط للحرب. ويقول عن هول الصدمة التي كان من الصعب تصديقها حين انتشر خبر سقوط قاعدة وادي الدوم الضخمة ناقلاً حديث أحد زملائه الضباط حين دار بينهما النقاش حول ذلك (لا تصدق هذا. إن وادي الدوم أقوى من أن يسقطه جيش نظامي فكيف تستطيع عصابات مسلحة إسقاطه؟) ويواصل زميله مندهشا (أول أمس كنتُ هناك.
إنه مسيج بالألغام ولقد وضعتْ أربعة محاور في حمايته، هذا عدا الكتائب الكثيرة التي بداخله. ثم إن له دفاعاً دائرياً مكون من نسقين. وحتى لو افترضنا أن أحداً استطاع التسلل من حقول الالغام وهذا احتمال بعيدٌ جداً، فإنه لن يستطيع التسلل من سياج الجند الأول. أما الدفاع الجوي فأعتقد أن أربعة بطاريات في حمايته من أي هجوم جوي ..)ثم يصف مؤلف الكتاب العميد عمر الوحش الذي كان ضبطاً ضمن أفراد القوات العسكرية الليبية المنسحبة من ساحة المعركة بشمال تشاد والعودة للجنوب الليبي بقوله: (أتيح لي أن أنظر من فتحة الشاحنة الموجودة في سقف غرفة القيادة إلى ضخامة الرتل، كان شيئاً لا يصدق، فعرضه كان أكثر من 30 أو 40 سيارة تغطي مسافة كيلومتر أو أقل قليلاً، أما طوله فلم استطع أن أرى بدايته ولا نهايته، وفيه من جميع أنواع السيارات العسكرية التي تخطر على بالك والتي لا تخطر، الغربية الصنع والشرقية، الصغيرة الحجم والكبيرة المدولبة العجلات والمجنزرة، وكان ضخيجها يطغى على كل شيء، والغبار الذي تخلفه يتصاعد إلى عنان السماء. إن ما تشاهده عيني كان كالسيل، غير أنه ليس سيلاً من ماء، بل من سيلاً من الفولاذ المتحرك وقلتُ في نفسي: إن الشعب الليبي يشكو من أزمة اقتصادية فالخبز اليومي لا تحصل عليه إلاّ بعد أن تدخل معركة الزحام والطوابير، ليس هذا فحسب بل إن الكثير من الضروريات اليومية غابت من السوق، وعن الكماليات لا تسل، وها هي أموال الشعب الليبي وها هي ميزانياته، وتالمتُ كثيراً وأنا أقول: مسكين هذا الشعب الذي يرى كل شيء ولا يستطيع أن ينطق ببنة شفة، والذي يزيد الهم همين أنه رغم هذه الدكتاتورية التي يعيشها تقول الإذاعة يومياً إن المجتمع الليبي هو المجتمع السعيد الوحيد في العالم..)ويواصل وصف رتل الجيش الليبي المنسحب بعد الهزيمة في وادي الدوم فيقول (التحقنا بالقوات جميعها بعد أن انضمت لها قوات القطاع الغربي، وكانت كشيء يشبه الخيال عدداً كبيراً جداً جداً من الآليات والمجنزرات والمدرعات والمدلبات تقف على مد البصر، وكنا نعرف أن من بينهم كتيبتنا، لكن أين سنجدهم في وسط هذا الحشر؟ وبعد وصولنا بساعة تقريباً تحركنا جميعاً ومررنا أول ما مررنا على مكان المعركة التي حصلت هنا في وادي ممر ورأينا بعض آليتنا ومجنزراتنا مدمرة، وكان من بينها دبابتين وناقل دبابات “اسكمل” أو اثنين وبعض عربات BMB وبعض السيارات وتمنيتُ أن لا يرى الجنود هذا المنظر السيء، دبابات مدمرة. إن أقوى صفعة معنوية هو أن يرى العسكري سلاحه التخصصي مدمراً، ويا ليت رحلة تدمرنا المعنوي وقفت عند هذا الحد بل إنها هبطت إلى أدنى المستويات عندما شاهد البغض – ولستُ منهم- شيئاً فظيعاً لقد رأوا جثت إخواننا الجنود التي دمرت أسلحتهم مازالت باقية كما هي، منها جندي قتيل وهو جالس على كرسيه، وآخر في وسط عربته، وآخر دفنت الرمال نصفه، وونالت منه الذئاب وجرجرت أمعاؤه، وقام عدد من الجنود بدفن الجميع على عجل..)ومن بين أسباب انهيار الروح القتالية للضباط والجنود المرابطين في الجبهة إثر الهزيمة وسقوط مدينتي فادا وفايا لارجو وقاعدة وادي الدوم العسكرية الضخمة، يحكي عن موقف القذافي في تلك الظروف الصعبة والانتكاسات المعنوية المتردية فيقول (هذه الليلة ليلة 28 مارس والتي توافق عيداً وطنياً وهو ذكرى إجلاء القوات البريطانية وخطب القذافي كعادته، وكنا متحلقين حول المذياع نسمع خطبته بصمت، ولما كانت معركة وادي الدوم قريبة ]22-23 مارس[ وكذلك معارك أزوار، وكذلك انسحاب القوات من فايا، لذا كنا نتوقع أن يرد في خطابه شيء عنها، وربما لأن الصحافيين الأجانب يريدون منه توضيحاً لذلك، فلقد ورد في خطابه أنه لا يوجد لدينا قوات في تشاد، ولستُ أدري من الذي قال لحفتر أن يذهب إلى هناك، هذا أمر ليس لي به علم، وحفيتر – على تعبير القذافي – الذي أعرفه فلاح. نعم هكذا كانت كلماته، وكرر ليس لدينا قوات في تشاد، وكنا نسمعه في تشاد وبالتحديد في أزوار، وكنا نسمعه عبر الإذاعة المسموعة، وهو يكذب جهاراً نهاراً، ويقول ليس لدينا قوات في تشاد فمن نحن إذاً؟لقد كان وقع خطابه على قلوبنا أقسى من وقع معاناتنا وأحسسنا بالمرارة والألم، وقلنا ونحن نهز رؤوسنا أسفاً: هكذا يدفع بنا إلى الموت والمهالك ثم ينسانا، وبحثنا عن تفسير منطقي يدفعه لهذا القول فلم نجد إلاّ أنه استهتار واستخفاف بنا وبالليبيين. لماذا لا يتحمل مسؤوليته التاريخية أمام الشعب وأمام العالم؟ بل كان من الأجدر به أن يستغل هزيمة وادي الدوم للخروج من وحل السلطة ويستقيل ولو فعل لكتب له التاريخ ذلك، وتساءلت من هو بدون الشعب والجيش؟ إنه لا شيء. وتساءلتُ كيف يطلب منا القادة الميدانيين أن نقاتل من أجل من لا يعترف بنا أصلاً!!)وعن شجاعة وجرأة بعض الضباط المخلصين للوطن والتقاليد العسكرية يضمن العميد عمر الوحش كتابه (القبر المتحرك) موقفاً بطولياً اتخذه العقيد محمد العيساوي للملمة وإنقاذ ما تبقى من العسكريين وقرر بصفة شخصية الانسحاب من الجبهة والرجوع بهم إلى أرض الوطن، معرضاً نفسه لأشد العقوبات العسكرية وهي الإعدام والتصفية الجسدية على أرض جبهة القتال أثناء الحرب. ويسرد المؤلف ذلك الموقف الوطني الشجاع (طلب العقيد محمد رمضان العيساوي الضباط للاجتماع وكنا أكثر من مائة ضابط، جلسنا أمامه صامتين وكان هو مع وسامته يرتدي بزة عسكرية كاملة ومهندمة مع شارات الركن فزادته هيبة وبهاء، وأخذ يتكلم قائلاً: الآن وصلنا منطقة الآمان “وكان يشير بيده إلى الويغ” والآن سيأتي رجالات المكاتب والمكيفات من طرابلس للتحقيق معنا. سيأتون كالطواويس المنتصرة، وما أريد أن أقوله لكم هو أنني تصرفتُ وانسحبتُ بكم وأنا أتحمل المسئولية الكاملة، وكل من قتل منكم وكل من فجر دبابة أو مدفع، وكل من دمر أي شي يقول فعلتُ ذلك بأمر العيساوي، وأنا أتحمل المسئولية كاملةً، قد يعدمونني ولكن ليس مهماً ويكفيني فخراً أنني أنقذت أربعة ألاف فرد ليبي من الموت المحقق، وإذا كان ثلاثة ألاف منهم متزوجين، ولكل منهم أربعة أطفال على الأقل فيكفيني فخراً أنني أنقذت إثنى عشرة ألف فرد ليبي من التشرد واليتم. وقال: إن تقام خيمة عزاء واحدة في الرحيبات “قريته” أفضل من أن تقام أربعة ألاف خيمة عزاء في كل المدن والقرى الليبية. وأشهد بالله أنه كان يتكلم بشجاعة وصدق، وعمق. وبعدها أخذ يعري بعض الضباط الجبناء..)
يتميز الكتاب بأن مؤلفه عسكري ليبي مثقف عاشق للأدب ومهتم بالسياسة والفكر، يحمل توجهاً عروبياً قومياً وعشقاً لليبيا الوطن، يتضح ذلك من خلال محاوراته لعناصر قوات المنظمات الفلسطينية المشاركة معهم في جبهة تشاد وصدمته بتصرفاتهم وبحبوحة الحياة التي كانوا عليها، وكذلك عدم رضاه واعتراضه على ما يسمى “القوات الصديقة” التشادية، كما نجده مواظباً على اللجوء إلى الله في كل شئون حياته، فنراه ملتزماً بتأدية صلواته المفروضة، ورفضه الانصياع لأموار الإفطار الاجباري أثناء شهر رمضان الكريم في جبهة القتال، ومهنياً ملتزماً بالقوانين والضبط والربط العسكري.وكل ذلك يكشف لنا شخصية المؤلف وأفكاره التي تبرز من خلال مداومته في الجبهة على قراءة المجلات والصحف والجرائد المتوفرة، واحتفاظه في خيمته بديوان المتنبي وعنترة بن شداد وغيرها من الكتب، وملاحظاته حول كتاب (حرب افريقيا الشمالية) الذي أصدره الفريق محمود نديم العسكري بالجيش العراقي، إضافة إلى مناقشاته وتعاملاته سواء مع جنوده أو زملائه الضباط، وهو ما يزيدنا اقتناعاً بما أورده ويعزز الثقة في مشاهداته التي دونها موثقة في كتابه (القبر المتحرك .. عن حرب تشاد) تضمنت أحداثاً مهمة وخطيرة في التاريخ الليبي العسكري والعام ومواقف متباينة للعديد من الضباط الكبار والقادة العسكريين والشخصيات والأسماء التي أوردها، وبالتالي فالكتاب رغم ما فيه من أخطاء نحوية جسيمة، ومرارة وأسف على ما تكبده الجيش الليبي من خسائر فادحة في الأرواح والعتاد وهزيمة شنيعة، فهو يسجل صفحات حقيقية سنعتبرها إضافة مهمة تقدم دروساً وعبراً لأجيال قادمة نأمل أن تستلهمها وتتعلم منها الكثير الكثير للابتعاد عن الحروب والانحياز للسلام.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :