* شهادة : لا بُدَّ مِن عبدِ الجَليل و إنْ طالَ الطَّريق *

* شهادة : لا بُدَّ مِن عبدِ الجَليل و إنْ طالَ الطَّريق *

*سعيد بو الشنب*

مساءَ الخير .

في العِقد الأخير دأبت ” مدنين” هذه المدينة الساحليّة الوديعةُ أن تستيقظَ و تنامَ على أصواتٍ فذّة لِمبدعين قصّاصين و روائيّين و شعراء مِثل عبد العزيز الغزال و مختار الورغميّ و الهادي القاسمي و سعيد السّاري و فتحي الرّحماني و عبد الكريم الجماعي و أخيرا عبد الجليل الحمودي الّذي لم يكن شاعرا و لا قصّاصا ولا روائيّا بلْ ناقدا مُتفرّدا و مٌتعبّدا في مِحراب الفنّ و الأدب و الفكر .و لعلّ الجامعَ بين هؤلاء باُستثناء واحد منهم هو اُنتماؤهم إلى قطاع التربية و التعليم بفرعيه الأكبرين الاُبتدائيّ و الثّانويّ و أنّ لأغلبهم نشاطات نقابيّة و سياسيّة غيرَ أنّهم اُبتعدوا أو أُبعِدوا شيئا فشيئا عن لوثة السّياسة و صراع النّقابة و تفرّغوا لِبهجة الأدب و نقاء الفكر و ذكاء النّقد فخلتْ  منهم – أو كادت- دكاكينُ السّياسة و منابرُ النّقابة و اُمتلأت بهم منابر الأدب و العلم و نوادي الثّقافة و المسرح و دورُ العُروض مثلما يحدُثُ الآن و هنا…لكنّ هذه الورقةَ تُخصّصُ لصديقنا النّاقد عبد الجليل الحمودي لِذا لا بُدَّ مِن عبد الجليل و إن طالَ الطّريقُ .

كما قُلتُ منذُ قليل أزهرت الكتابةُ و راج النّشرُ في هذه الرُّبوع على يد أعلام معروفين فكانَ لا بُدَّ لهذا الحَراك الثقافيّ النّشيط أنْ يُخصِبَ نقّادا يُحيطون به و يبحثون في دوافعه و اُندفاعاته و مساراته و مساربه . فاُنبجسَ عبد الجليل ناقدا جديدا حصيفا مُتعدّدَ الرّوافدِ فكان أوّل ما نشرَ تقريبا عن صديق المهنة و الحياة صديق النقابة و السياسة فتحي الرحماني صاحب مجموعة ” ظمأ شديد و جنون” تقديما باهِرا راوحَ بين النّقد و الإنشاء بين الذّات و الموضوع. ثمّ كتبَ نصّا آخرَ عن الصّديق الهادي القاسمي عنوانه ” تيمة الموت في رواية رُطَبا جَنِيّا

وصلَ فيه إلى أنّ الموتَ يَلُفُّ هذه الرّوايةَ من أوّلها إلى خاتمتها و أنّ أهلَ قريتي ” أمّ التّمر ” قد اُعتنقوا الخَمرةَ مذهبا يتجرَّؤونَ به على الموتِ و يُصارِعونه فيصرعونهُ .ثمّ اُنفتحتْ كتاباتُهُ على أعلام مِن أعلام القصّة القصيرة و الرّواية في فلسطين مِثل مَيْس داغِر صاحبة مجموعة ” ما جرى في الدومينكان ” الّتي اُرتحلت بنا إلى أمريكا الوسطى لكن لِتُحدّثَنا عن فلسطين .و في مِصرَ مِثل سعاد سليمان صاحبة رواية هَبّات ساخنة الّتي كانت رواية جريئة تناولت مواضيعَ شِبهَ مُحرّمة عن حياة النّساء في مرحلة اليأس .كانت محظورة على الأدب لكنّ هذه الرّوائيةَ أدخلتها إليها و أدخلتنا معها لِنستكشِفَ هذا العالمَ الغريبَ الّذي كنّا نسمعُ عنه فصِرنا نقرأُ عنه و ليسَ مَن سمِعَ مِثلَ مَن قرأ.

و في تونسَ تناول تجربة عواطف محجوب صاحبة مجموعة “لاعب الظلّ” فدرسَ تعدّدَ صورة المرأة في مجموعتها هذا التعدّدَ الّذي خرجَ بنا عن نمطيّة هذه الصّورة في نظرتنا إلى المرأة . كما أغنى صديقُنا الكتابةَ بمواضيعَ ظلّتْ حتّى وقت قريب بعيدةَ المنالِ عن القراءة مثلَ قراءته لعرض الزّيارة الّتي جعلتنا نُشاهدُ معه و به هذا العرضَ بأزيائه و أضوائه و مشاعله و مجامره و نُدرِكُ أنّ هذا الناقدَ لا يقرأُ نصوص الأدب فحسب بلْ أيضا الصورة و الحركة و الأضواء في إطار نسق ثقافيّ شامل. كما ضمّنَ كتابه رسالتين مُتبادلتين بينه و بين الكاتب العراقيّ حكمت الحاج رسالتين خرجتا مِن البُعد الإخوانيّ إلى البُعد المعرفيّ و البحثيّ و لولاهما ما أوردَ هاتين الرسالتين .

مِن خِلال مُتابعتي لِمسيرة الصديق عبد الجليل سواءً فيما يكتب أو يُدوّن على صفحته أو فيما تَذروهُ ألسنةُ الأصدقاءِ المُشتركين مِن نميمة خلّاقة و بنّاءة مُحبّبة و عالمة أرى في حياته و طبعا في كتاباته ثلاثةَ آباء أثّروا فيه و بل و أحيانا يُطلّون من فوهة نصوصه .

الأب الأوّل هو الأب البيولوجيّ و المعلّم سي الطّاهر عزيّز رحمه الله الّذي ودِدنا أن يكونَ حاضرا اليومَ لِيرى عَرَقَهُ و عِرْقَهُ فلا شيءَ أرفعُ مِن غُصن بارّ يدعو لأبيه أو كتاب يزيحُ قليلا أو كثيرا ظُلمة الكهوف و ما أكثرها خاصّة اليوم !! ….فما بالُنا إذا ألفينا أنفسنا أمام كتابٍ لاُبن بارٍّ خلّدَ اُسمَ أبيه و جدّه منذُ أحرف الإهداء الأولى ؟….سي الطاهر عزيّز الّذي كان يُجبرُ ناقدنا على ساعات من المطالعة مُسيّرة و مُخيّرة و يستدعيه لِمتابعة برنامجين ثقافيّين شهيرين : كتاب مفتوح لفرج شوشان على قناة كانت تُعرفُ سابعة فصارت وطنيّة أولى و برنامج bouillon de  culture لبرنارد بيفو على القناة الفرنسيّة الثانية..

لكم كنّا نتوقُ إلى حضور هذا الأب لنقول له : هاقد أثمرَ زرعُكَ .لكن لا بأسَ فلا شكَّ أنّ روحه الطّاهرةَ العزيزةَ تُحوّمُ حولنا و تُقرئنا السّلام و تُصغي معنا إلى هذه الشّهادة .

أمّا الأب الثاني فهو فتحي الرّحماني الّذي كان أبًا بمرتبة أخٍ و صديق فلا شكّ أنّه قاد يده يوما لِيتلمّسَ مطبّات العمل السياسيّ و النقابيّ و إكراهاته

و قبل ذلك فلا بُدَّ أنّه قد شاركه في بعض المطالعات و القراءات فقرأ له نصّا مِن نصوص البدايات عنوانه ” الشّرفة و أنا و الشّارع ” أعجِبَ به جليلُنا فكتبَ عنه مقالا نقديّا .ضاع النصّ و غابَ المقال رغم جهود البحث و التذكّر و بقِيَ لنا هذان الكاتبان المجيدان …فتحي الرّحماني الّذي عرفه عبدُ الجليل خبرا قبلَ أن يعرفه أثرا عندما بلغه أنّ أستاذا جامعيّا يلهَثُ وراء طالب جنوبيٍ لِينشُرَ له قصّة ” الأشياء الّتي أعرف عن ساندرا “….عرفنا محمّد البدوي و عرفنا عبد الجليل و عرفنا الفتحي ولم نعرف ساندرا و لا الطريقَ إلى قلبها أو أبيها .

أمّا الأبُ الثّالثُ و هو أحدثُهم أبوّةً و أكبرُهم سِنّا هو النّاقد و المسرحيّ و الشّاعر حكمت الحاج و هو كاتب عراقيّ مُغترب الآن في السويد بلادِ شمس مُنتصف اللّيل .عاش فترة في تونس و يعرف الكثير عن أهلها و ثقافتها .اِلتقى حكمت الحاج عبد الجليل ذاتَ مُلتقًى ثقافيّ في بني خداش فحثّه على تدوين أفكاره الّتي كان ينثُرُها مُشافهة و تُضيفُ الأخبارُ أنّه نهرَهُ كي يُودّعَ كسلهُ المعرفيّ /البدويّ …العَرّاب حكمت الحاج صاحب دار نشر كناية سمحَ لأجنحة عبد الجليل أن تُرفرِفَ و تُحلّقَ بعيدا عن منازل بني خداش و مضارب الظّاهر و جفارة .

هنيئا لصديقنا على هذا الإصدار الّذي ستتلوهُ إصدارات.

هنيئا لهذه المدينة الّتي تتلاحقُ إبداعات أبنائها .

أخيرا…عندما يعُمُّ الخرابُ و يندثِرُ هذا الكونُ الجميلُ سيبقى الشّعراء و الكتّاب و الفنّانون لِيعيدوا خلقَ هذا العالم مِن جديد .

آخرا….

سلام إلى روح سي الطاهر عزيّز رحمه الله وبرّدَ ثراه.

سلام إلى الغائبين الّذين اُستدعتهم هذه الشهادة محمّد البدوي وفرج شوشان و برنارد بيفو.

سلام إلى ناقدِنا عبدِ الجليل مَدَّ الله في عُمرهِ و قلَمِهِ.

سلام إلى كلّ الحاضرين الكرام .

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :