بقلم :: سالم الهمالي
ركبت هدى في الكرسي الخلفي للسيارة، أغلق سلام الباب بعد ان جلس بجوارها، ليكونا اخر راكبين في التاكسي، التي انطلقت بهم في رحلة الى ما يبدو المجهول … السائق يلف كوفيته على راسه بعد ان أزالها عن جزء من وجهه الذي كان يغطيه، أشعل سيجارة، والتفت الى الركاب، وسألهم: ايش تحبوا تسمعوا، الرحلة طويلة ؟!
كانوا منهمكين في خيالهم، من يريد النزول في العقبة، ومن يريد الوصول الى القاهرة، سلام الجالس في الكرسي الخلفي يضع ذراعه حول هدى ، التي تبدو متعبه، فهي لم تتعافى بعد، بعد إجهاضها قبل ايام. ينظر اليها بشفقة وحب تراه في عينيه، اجاب السائق: عندك عراقي ؟!
تحبون سعدون جابر ؟! .. لم ينتظر اجابة، وضع يده في جراب بجانب المقود، وقلّب الاشرطة حتى عثر على سعدون جابر … هاي سعدون ان شاء الله يعجبك !!
والتاكسي يدخل الدوار الثاني في مدينة عمان متجها جنوبا نحو العقبة، هزت الموسيقى وكلمات الاغنية جميع الركاب، لكن تأثيرها على هدى وسلام كان الاقوى، سالت الدموع على خدودها، ويد سلام اليمنى تمسحها، وهو يحيطها بيده وذراعه الأيسر، متخفين عن الآخرين بِظَلاَّم الليل، وجلوسهم في المقعد الأخير ..
يا أمي يا أم الوفى يا طيب من الجنة
يا خيمة من طيب ووفى
جمعتنا بالحب كلنا …
تعلمت الصبر منك يا يمه
الهوى .. انت الهوى ومحتاج اشمه
ياغلى واعز مخلوق عندي
ياماي عيوني أمي … قلب هالبحر أمي … سلامة وخير أمي
وجه يمطر محنة .. قمر ونجوم كنه …
تعرف تحمل هموم … وما تعرف المنّة
يا أمي … يا أمي
كبرت يايمه والايام تمشي
شفت ما يعادل الام ثمن كلشي
يايمه الشمس من تمشين تمشي
يا تربة طاهرة ودار … ربينا بحضنك صغار
المحبة تنحني وتبوس أيدك
ويصلي الوطن لعيونك يا جنة
ياأمي … ياأمي
ما بين الناس أسهر يا شمعتي
تصيرين الحديث الحلو انت
اسولف لأصدقائي اشلون كنتي
تناديني حبيبي … وذخر لأيام شيبي
شماوفّينا ما نقدر نجازي …
انت النهر واحنا فروع منه
يا أمي … يا أمي
يا أمي … يا أم الوفى
ما من شيء يهز قلب سلام كأمه، ويبدو ان الحظ هذه الليلة اراد ان يذكره بها، وهو في طريقه الى عالم جديد، لا يعرف عنه الكثير، تاركا ورائه وطن ما عاد يتسع لأن يعيش فيه. تظاهر برباطة الجأش امام هدى، ووضع راسه خلف رأسها ليخفي دموعه، فوقع الذكرى كان مضاعفا، وهو يستشعر ما تحسه زوجته، بعد ان فقدت حملها في شهره الثالث، فصار يتغمدها هي وأمه في ذات الوقت، هدي بين احضانه، وأمه في خياله. كل كلمه يتغنى بها سعدون تحرك مشاعره وجوارحه، فيزيد من اقترابه لهدى، وهي تخفي رأسها على صدره وبين ذراعيه.
شجن الاغنية ورقة كلماتها جعلت الركاب يستحسنونها، ولم يمانعوا طلب سلام من ان يعيدها السائق مرات عديدة، حتى تسلل النعاس الى الجميع، عتمة الليل أسلمتهم الى النوم إلا سلام الذي يحضن زوجته وكأنه يحرسها من عيون الآخرين، حتى وهم غارقين في نوم عميق. لم تكن العقبة او القاهرة هي وجهته، ولكن الظروف أجبرته على المغامرة، فهو الآن في طريقه الى ليبيا …
يتبع الحلقة ( ٢) ….. رواية