المهدي يوسف كاجيحي
من مدريد طلب أستاذنا محمد نجيب عبد الكافي كتاب ” اطرابلس تتحدث عن نفسها ” من تأليف الأستاذ يوسف خليل الخوجة، فكانت فرصة للتسكع في مكتبات طرابلس بحثا عن الكتاب، وعندما فشلت في العثور عليه، طلبت يد العون من الصديق الدكتور على دقدق ، الذى ترك مهنة الطب، وتفرغ في البحث والتوثيق لمدينة طرابلس عبر رحلة تنقيب طويلة في صفحات جريدة” طرابلس الغرب ” ، توثيقا لحقبة ما قبل الاستقلال، من خلال الخبر الصحفي والتعليقات المرافقة. كتاب ممتع ” تحت الطبع ” يوثق لحقبة هامة، امتدت تأثيراتها إلى يومنا هذا. عمل موسوعي سيصدر بمشيئة الله في عدة أجزاء بعنوان (صحيفة طرابلس الغرب ـ أخبار الحاضرة ). ولأن طلبات أستاذنا محمد عبد الكافي أوامر، على رأي إخواننا اللبنانيين، فقد قمنا برحلة تسكع إلى المدينة القديمة، حيث ناشر الكتاب، وهو جهاز إدارة المدن التاريخية، وعندما يكون التسكع برفقة ولد مدينة خبير بمسالكها يكون للتسكع مذاق مختلف.
القوس
من أمام قوس “ماركوس اوريليوس” بدأنا التسكع، والقوس إثر روماني فريد، تم بناؤه سنة 163 ميلادية وعمره الان 1860 عاما، من الآثار الرومانية النادرة في العالم. وللحفاظ عليه، يعود الفضل لأهل طرابلس ويقول: استاذنا خليفة التليسي في كتابه “حكاية مدينة”: يدل على الحس الحضاري والالفة التي قامت بينهم “اهل طرابلس” وبين هذا الأثر الهام “القوس” انهم اعتبروا ان ازالته أو تهديمه نذير شؤم للمدينة وبذلك إستطاعوا المحافظة عليه وتسليمه للأجيال المتعاقبة جيلا بعد جيل. وهناك كتاب رائع صدر عن جّهاز المدن التاريخية للأستاذ سعيد حامد يمكن الحصول عليه. سقطت روما كما سقطت قبلها وبعدها حضارات كثيرة مرت بالمكان، وظلت طرابلس شامخة عفية تقاوم الزمان وستظل.
المحنة
تذكرت المكان وأنا أبحر في ذاكرتي عائدا الى الوراء ما يقارب من 65 عاما، ابحث عن طرابلس ومدينتها القديمة التي عرفتها عندما دخلتها لأول مرة في طالبًا، كانت مدينة نظيفة، تعبق شوارعها بروائح الزهر والحنة، مدينة لها قوانينها وعاداتها وتقاليدها “واسبارها”، خاصة في الاعيادم الدينية. لكن بعد اكتشاف النفط وما صاحبه من تغييرات اقتصادية واجتماعية، إنتقل أهل المدينة للسكن خارجها فغادروها. فأهملت وتحولت إلى مأوى للغرباء، ومرتع الحيوانات الضالة، والحشرات والقوارض. وظلت في حالة من الانحدار المتواصل، حتى ادركتها النجدة بفضل النبلاء من ابنائها وعشاقها، وتشكل ” جهاز إدارة المدن القديمة ” الذى استطاع أن يحقق نتائج إيجابية أقلها ايقاف حالة الانحدار المتواصل، الذي كانت تمر به المدينة،عمل يستحق أن نقف عنده طويلا، وان ندعو للعمل على تكريم كل القيادات التي عملت في هذا المشروع، منذ تأسيسه وحتي يومنا هذا.
استعادة ذاكرة وطن
تغيرت الدنيا، وبدأت المدينة القديمة تستعيد ملامحها. لم اصدق ما رأته عيناي! لقد أمتدت يد التنظيف والصيانة والترميم إلى المدينة المتهالكة. وبدا المكان يشهد حراك ثقافى نأمل ان يتواصل ويتطور ويجب ان لا يكون مشروع تطوير وصيانة المدن القديمة ، قاصرًا على الحكومة، بل يجب ان يكون عملا قوميا يشارك فيه ويسانده الجميع ،الحكومة بمؤسساتها والمجتمع المدني بجمعياته ومؤسساته الاقتصادية ومساهماته المالية، كرعاة للانشطة المختلفة
على أعتبار أننا أمام مشروع، الهدف منه هو استعادة ذاكرة وطن فقد هويته. ويجب أن ندرك إن ما يجري هو عمل تنويري ، يجب أن نفخر به.
مدينة لا تشيخ.
دخلنا مبني الجهاز، واستقبلنا بكرم اهله، وتشرفنا بلقاء الأستاذة فوزية عريبي مديرة الفضاءات الثقافية، وإن لم يسعدنا الحظ بالحصول علي الكتاب المطلوب، لتأخر وصوله من المطبعة، فقد سعدنا بالحصول علي مجموعة من إصدارات الدار. عند الخروج كانت افواج من طلبة وطالبات المدارس تغزوا المكان، في رحلة ثقافية. زهور يانعة وورود باسمة تحمل البهجة والأمل ، في اجيال جيدة واعدة، جاءت تبحث عن المعرفة وتبحث عن جذورها، والتعرف على تاريخ مدينتهم العتيقة، التي تزداد جمالا وبهجة. مدينة صامدة لا تشيخ، ينطبق عليها بيت شعر من قصيدة الشاعر الشعبي المصرى احمد فؤاد نجم يقول : الزمن شاب وانت شابة ……هو رايح وانتى جاية.