فسانيا : عبدالمنعم الجهيمي
في فناء بيت بسيط على أطراف مدينة سبها؟ بعيدًا عن تعقيدات التكنولوجيا وصخب الحياة، نجحت سيدة سبهاوية في استعادة نَفَس البيت وروحه، ليس عبر وسائل حديثة ولا أنشطة ترفيهية مُكلِفة، بل من خلال عجين ودخان ورائحة خبز ساخن، تلك السيدة هي فاطمة المبروك، ربة بيت والمدرّبة في مجال التنمية البشرية، أرادت أن تُعيد عائلتها إلى مائدة واحدة، ففعلت ذلك ببساطة تخلو من التعقيد وامتلأت بالحنين.

كانت فاطمة وهي جالسة أمام موقد النار أيقونة للأمومة والسكينة، يظهر وجهها الجنوبي تتناثر عليه خيوط الشمس، تضيئه حالة من الرضا الداخلي، عيناها نصف مغمضتين، تركّزان على العجين، ضحكتها خفيفة، تخرج منها كأنها دعاء يحمل الخير لأسرتها، دعوات تتسلل إلى من حولها دون أن ترفع صوتها، كانت يداها، القويتان رغم رقّتهما، تعملان بمهارة وخفة؛ تعجن، تفرد، وتُقلب الخبز على الصاج بلمسة خفيفة، وحين يشتد لهب الحطب، تميل بجسدها لتتقيه، وتحني رأسها بعيدًا عن عمود الدخان، ثم تضحك وتعود إلى موضعها، كأنها في طقس تعرفه جيدًا وتحبّه أكثر.
اللمة الغائبة… وقلق أمّ.
تقول فاطمة بصوت متهدج يحمل بين نبراته حنينًا وشوقًا: “كنت أنظر لأولادي، كلٌ في عالمه. أحدهم على هاتفه، الآخر منشغل بدراسته، وزوجي لا يخرج من انشغالاته. أما أنا، فكنت أتنقل بين العمل المنزلي والتدريب وورش التنمية البشرية، مع مرور الوقت والأيام شعرت أن شيئًا ما ينقصنا، كأن البيت مكتمل بأركانه لكنه فارغ من روحه.”

هذا الشعور لم يمر مرور الكرام، كانت فاطمة تشعر أن “اللمة” التي كبرت عليها بدأت تتلاشى من بيتها، جربت كثيرًا من الوسائل لاستعادتها: دعوات صريحة، اقتراح لقاءات أسبوعية، وحتى تخصيص وقت للمشاهدة الجماعية، لكنها تصف كل تلك المحاولات بأنها كانت “باهتة، رسمية، كأننا نؤدي واجبًا لا نرغب فيه“.
الشرارة الأولى… نار وعجين.
وفي لحظة عفوية، ومن غير تخطيط، كانت بداية الحكاية. تحكي فاطمة: “في أحد الأيام جلست في فناء البيت، أشعلت النار، وبدأت أعجن الخبز بشكل عفوي ودونما ترتيب مسبق. كنت أحتاج لشيء يخرجني من روتين البيت والعمل، وضعت المكونات على الأرض، وبدأت في العجن على مهل، كأنني أُفرغ تعب أيامي في كل لمسة.”
في البداية كانت فاطمة لوحدها، لم تكن تنتظر شيئًا من هذه اللحظة سوى أن تستعيد شعورها بالراحة، لكن المفاجأة بدأت حين أخذت رائحة الخبز تنتشر.
“واحدة تلو الأخرى، خطوات خفيفة بدأت تقترب. الأولاد خرجوا من غرفهم، زوجي ترك ما بيده، وجلسوا جميعهم حولي. لم أقل لهم تعالوا، لم أطلب منهم شيئًا، لكن الخبز فعل ذلك، كانت اللحظة ساحرة… لا ترتيب، لا رسميات، فقط دفء“
رغيف من غير زيت… ولذة لن تُنسى.
تلك الجلسة الأولى لم تكن مثل أي وجبة عادية، تقول فاطمة مبتسمة: “لم أتمكن حتى من تخزين أي قطعة خبز. أكلناها جميعًا وهي ساخنة، من غير زيت ولا جبن، فقط خبز حاف كما نقول. لكنها كانت ألذ من أي مائدة فاخرة. كأننا نأكل الذكريات، نأكل الطمأنينة.”
ضحكت العائلة كما لم تضحك من قبل، تحدثوا، تشاركوا تفاصيل يومهم من غير أن يُطلب منهم ذلك، وتؤكد فاطمة أن تلك الليلة غيّرت شيئًا جوهريًا في علاقتهم كأسرة.
من الطارئ إلى العادة… طقس عائلي جديد.
لم تكن تلك المرة الأخيرة. أصبحت عادة، كلما أرادت فاطمة أن تجمع عائلتها، لا تصرخ منادية، ولا تُرسل رسائل في مجموعة العائلة، فقط تجهّز العجين وتُشعل النار، والرائحة تقوم بدورها.
“أشعل النار، أبدأ بالعجن، وتتكفل رائحة الدخان والبخار بالباقي، أحيانًا لا يمر نصف ساعة حتى يخرج الجميع، لا أحد يعتذر، لا أحد يقول مشغول، كأن خبزي صار المغناطيس الذي لا يُقاوم.” تقول ضاحكة.

صحة واقتصاد… وفلسفة في بساطة العيش.
ما بدأ كفكرة لجمع الأسرة، تحوّل إلى أسلوب حياة صحي واقتصادي. تقول فاطمة:”صرت أكثر اطمئنانًا لما نأكله. الخبز الجاهز في المخابز لا أعلم مما صُنع، ولا كيف عُجن. أما خبزي، فأنا أختار الدقيق، أضيف ما أحب، وأقدم لعائلتي شيئًا نظيفًا يشبهني.”
وتضيف بابتسامة واثقة:”حتى من الناحية الاقتصادية، أصبح الوضع أفضل. أشتري الدقيق مرة كل شهر ونصف تقريبًا. أتحكم في الكمية والاحتياج. والأجمل أننا نوفر الغاز لأننا نخبز على نار الحطب، ونستمتع في الوقت ذاته بجلسة الهواء الطلق.”
قرب أكثر… واكتشاف متبادل.
لكن المكسب الأجمل كما ترى فاطمة ليس ماليًا، بل إنساني.
“في جلسات الخبز اكتشفت أطفالي من جديد. سمعت أشياء لم يقولوها لي من قبل. عرفت ما يخيفهم، ما يسعدهم. وعرفوا هم أمهم بطريقة مختلفة. كنت مشغولة أكثر مما ينبغي، حتى عنهم.”
تشير إلى أحد أولادها وتضحك:
“قال لي ذات مرة: ماما، نحبك لما تكوني زي اليوم، مرتاحة. فهمت حينها أنني حين أرتاح، أُريحهم. وحين أكون منشغلة عنهم، فهم يتعلمون أن الانشغال أهم من التواصل. كانت لحظة صادمة ومهمة.”

ليست وصفة للجميع… لكنها نجحت هنا.
لا تدّعي فاطمة أن طريقتها تصلح للجميع، لكنها تؤمن أن “لكل بيت سره”، وتقول:”ربما هناك من تجمعه الموسيقا أو السفر أو مشاهدة الأفلام أو القراءة أو الطلعات أو التسوق، أنا وجدت سبيلي في العجين والنار والدخان، شيء بسيط، لكنه جلب لنا كل ما افتقدناه.”
وتضيف: “أنا لا أملك بيتًا فاخرًا، ولا إمكانيات كبيرة، لكني أملك الوقت والإرادة. ومن خلال الخبز، وجدت المعنى الحقيقي لدفء الأسرة.”
رسالة لكل أم… الدفء في التفاصيل.
تختم فاطمة حديثها برسالة إلى كل أم تحاول أن تُمسك بزمام أسرتها وسط فوضى الحياة المعاصرة: “لا تستهيني بالأشياء الصغيرة. لحظة عجن، رائحة خبز، مكان بسيط، قد تُغني عن ساعات من الكلام والنصائح. الأولاد لا يتجاوبون مع الكلام بقدر ما يستجيبون للمحبة وهذا ما حدث معي حين عجنت لهم الخبز وقدمته ساخنًا.”
وفي زمن غابت فيه “اللمة” خلف شاشات الهواتف وأبواب الغرف المغلقة، تقف فاطمة المبروك كأيقونة بسيطة تقول لنا: ربما كل ما نحتاجه لنستعيد قلوبنا، هو فقط رغيف خبز ساخن.














