كتب :: المهندس فتحي الحبّوبي
بعيدا عن التطبيل للسلطة والتهليل لأدائها، و تأسيسا على أنّ العين لا ترى إلّا ما يراه العقل، فإنّه يتبدّى لكلّ ذي عقل راجح و عينين تبصران بوضوح، أنّ الاحتجاجات الليليّة التي تشهدها تونس منذ بداية الأسبوع الثاني من شهر جانفي (يناير/ كانون الثاني)، ليست حراكا شعبيا بالمفهوم الإجتماعي كما هو متداول إعلاميّا. وهي ليست بريئة لأنّها ببساطة شديدة، ليست اجتماعية خالصة، ترفع مطالب معيّنة عبر شعارات محدّدة، معبّرة وواضحة تنشد وضعا أفضل ممّا هو عليه اليوم. يستتبع ذلك، بداهة، أنّ قانون المالية الجديد (2018)، بما جاء به من زيادات في الأسعار، طالت بالأساس بعض المواد الغذائيّة والطبيّة، والمحروقات، وبطاقات شحن الهواتف، والانترنيت، والعطورات، ومواد التجميل، جرّاء إحداث ضرائب جديدة والترفيع في نسب القيمة المضافة الموظّفة على المنتوجات، ليس بالضرورة هو السبب الرئيس لهذه التحرّكات الليليّة المريبة والمشبوهة. فلو كان ذلك خلاف ذلك لكانت الاحتجاجات سلميّة مؤطّرة من الأحزاب ومنظّمات المجتمع المدني و في وضح النهار لا آنَاء اللَّيل، لأنّ ابنُ اللَّيل إنّما هو اللِّص كما جاء في المعجم العربي، و لأنّ من يحتج إنّما يريد من وراء ذلك ابلاغ صوته للسلطة المعنيّة، التي قد تصغي اليه أثناء أوقات العمل، فيما إذا كانت مطالبه مشروعة، بصرف النظر عن تلبيتها لطلباته من عدمها. بهذا المعنى فإنّ ما تشهده تونس راهنا من إحتجاجات لعصابات منظّّمة، بعد أن يبسَط اللَّيلُ رداءَه بتعلّة الزيادات في الأسعار التي، وإن كانت تثقل، قطعا، كاهل المواطن وتساهم بصفة مخصوصة في مضاعفة معاناته ومزيد تفقير الطبقات الفقيرة والوسطى، فإنّ اللافت للإنتباه والمثير للإستغراب و طرح التساؤل، أن من يقوم – في الأغلب الأعمّ – بهذه الاحتجاجات اللَّيليّة الغريبة التي ترافقها عمليات السرقة والنهب والسلب والتخريب، ليس ذلك المواطن العادي المتضرّر الفعلي والأساسي من إرتفاع الأسعار، بل هو ذلك المنحرف الخطير وذلك التكفيري الساذج، لغايات باتت لا تخفى اليوم حتى على السذّج فما بالك بغيرهم ممّن رجحت عقولهم فنظروا إلى ما يجري بصفاء ووضوح . والّا، فما معنى إغلاق الطرقات بالإطارات المشتعلة و حرق المراكز الأمنيّة ورشق من فيها بالحجارة وزجاجات المولوتوف الحارقة واتّساع رقعة الصدامات والتحرّكات التخريبيّة، غير إمكانيّة تسلّل الإرهابيين من الجبال الى المدن وانتصار، قوى الرجعيّة والظلام، وكذا رموز الثورة المضادّة من الأزلام والفاسدين،لا بل والإجهاز على التجربة الديمقراطيّة الوليدة. وما معنى نهب الفضاءات التجاريّة الكبرى واتلاف الوثائق الادارية غير تعثّر التنمية -المتعثّرة أصلا- وبثّ الفوضى وإضعاف الدولة والحكومة تحديدا، بما هي في مفهوم هؤلاء، طاغوتا يجب مقاومته “شرعا” بكل السبل، و بما هي في مفهوم بعض المعارضين، الخصم، بل العدو اللدود الذي يجب هزمه والاطاحة به للانقضاض على السلطة بدلا منه. وأخيرا ما معنى محاولة إحراق مدرسة يهودية بجربة، غير بثّ الفتنة الطائفيّة بدل التعايش الديني الذي يميّز تونس منذ الأزل. لذلك فإنّ الفاعلين الأساسيين وراء التحرّكات الليليّة المريبة، ليسوا بالتأكيد، هؤلاء الصبية والشبّان والمخرّبين المغرّر بهم، بل هم بالدرجة الأولى قادة التيّارات السلفيّة التكفيريّة الجهاديّة و والقيادات الحزبية و تنظيمات المجتمع المدني (حركة “فاش نستناو” ؟ بصفة مخصوصة)، التي دعت إلى التجييش و التهييج وتعبئة الشارع حال المصادقة على قانون المالية الجديد بما اشتمل عليه من إجراءات تقشفيّة، لم يكن ولن يكون لأيّة حكومة- مهما كان لونها السياسي- خيار آخر غيرها، للحدّ من عجز الموازنة الذي بلغ اليوم 6 بالمائة من الناتج الإجمالي المحلّي،أي ضعف النسبة المقبولة إقنصاديا (3 بالمائة). وهو رقم مفزع ومخيف يمثّل صيحة فزع جدّية تؤشّر على الدنو من إفلاس الدولة إن هي تراخت في اتّباع سياسة تقشّفيّة باعتماد إجراءات مؤلمة.