- محمد المتيم
اليوم يبلغ العمّ الجميل، والأستاذ البصير، الشاعر/ إبراهيم المصري عامه الرابع والستين، ويطيب لي أن أتذكّر رسالتي له في عيد مولده قبل الماضي، قلتُ:
اثنان وستون عامًا وما زلتَ تستجيرُ بالعقلِ يا إبراهيم! محمولون على جغرافيا كل ما فوقها يدعو إلى الجنون، ومشدودٌ وثاقنا إلى تاريخٍ ينزُّ دمًا فاسدًا وصديدًا، وأنت ما زلت تؤمن بالحياة، وتراهن عليها، وتُعافر بصلابة “الفواعلية” في كنْسِ الديوان الشِّعري من فائض الموسيقى والصور المستهلكة.
اثنان وستون عامًا والأنباءُ تتوالى عن دجاجلة يتوغلون في كل رأس، ومخبرِين يستقرون تحت كل وسادة، وأصنامٍ تنتصب في كل دولاب وقلب، وأنت ما زلتَ تستجيرُ بالعقلِ، وتكتبُ بنهَم، ولا شيء يطرأُ عليك إلا ازدياد ألف شعرةٍ بيضاء مع كل نكبةٍ تحيقُ بنا، حتى غدا رأسُكَ ينازع قلبك بياضًا.
هذا الرأس المكشوف عمدًا، جاء يُقيم الحُجَّةَ علينا، بلا عمامة، ولا قبّعة، ولا باريه، ولا طربوش، فقط غمامةٌ بيضاء -عصيَّةٌ على الأُطُر- تكثّفت من الدخان المتصاعد من قلبك المرجَل.
الأسبوع الماضي رأيتهم يُطَوّقون البحر، بحر الإسكندرية، بحرك يا إبراهيم، بالمازوت، بكيتُ لأجلك يا إبراهيم لا لأجله. لا بد لصديقي السكندري العجوز من قصةِ حُبٍّ جَرَت بعض فصولها هنا، ولا بد له من قصيدة خرجت في شهقةٍ أمام البحر، ولا بد له من صديقٍ غرِق في الزمن الأول.
بكيتُ لأجلك يا إبراهيم، وذهبتُ خصيصًا لأُحَرِّرَ البحر بعد أن سجنوه في حلقة بنزين، ربما تطمئن، ويطمئن أستاذي الجامعي على علاقتي بمقرر الكيمياء العضوية، بعد أن رسبتُ فيه ثلاث مرات.
وددتُ لو جلستُ إليك وسألتك: ماذا عن إبراهيم الذي يتقافز بين المطارات ويكتب التقارير من الخنادق وساحات الحرب؟
أيُّ جدارٍ حجزتَ به بين عين الصحفي وعين الشاعر؟ وما الفارق بين خوذة الحديد وخوذة الاستعارة؟
قبل أربعة أعوام قال صديقي “احذر يا متيم .. لقد كفر الذين قالوا ما في قلوبهم”، لكنني اليوم -وأمام صمودك اللغز- لا أتجاسر على تمرير عبارته إليك، لكن بصوتٍ مبحوح، ودمعةٍ مختنقة، وعين ناطقةٍ مُعرِبَة، سيسمعني ضميرك الحي وأنا أقولُ فديتُك من حناجر اللئام والسفهاء.
حقنا عليك أن نطالبك بالمزيد من الثورة والكتابة بفتوَّةٍ وعنفوان، وحقك علينا أن تطالبنا بالمزيد من الإصغاء، وإذا كانت حكمةُ العوام تقضي بأن لكلٍ من اسمه نصيب، فحقها علينا أن تطالبنا بالإصغاء لصديقك الفذّ مصطفى إسماعيل وهو يرتّل “ولقد آتينا إبراهيم رُشدَهُ من قبل…”.
كل عامٍ وأنت كما أبصرتُك في خلوتي،
أبصرتُكَ ساطعًا، ونزيهًا، وحُرًّا، ومُهابًا.
رغم غيابك الاختياري، لا تغيب، سنة حلوة يا جميل