- كتبت / جميلة الميهوب
مدينة فيكتوريا التي أسكُنها، وبسبب طقسها المعتدل مقارنةً بمدن كندا الأخرى، مستوى المعيشة فيها مرتفع جداً. معروفة بأنها مدينة المتقاعدين الأثرياء. أو هكذا يسمونها.
في طريقي إلى العمل، للوصول إلى محطة الباص، غالباً ما أختصر الطريق وأدخل المول الذي يقع في منتصفه. أيام البرد والمطر والريح، أنعم بشيء من الدفء ريثما أصل المحطة. وفي الحرّ أنعم بشيء من البرودة. عندما يكون الجو ربيعياً جميلاً أسلك الطريق العادي وأمشي بمحاذاة المول. أطبق نصائح ابني بالشهيق والزفير بعمق عدة مرات إلى أن أصل المحطة.
أمرّ دائماً حوالي التاسعة ونصف صباحا. المول يعجّ دائماً بالسيدات المسنّات. فيهنّ مَن تتبختر على رِجليها، ومن تستند على عكاز، وأخرى تستند بيديها الاثنتين على مسند متحرك بعجلتين أمامها، وهناك مَن تكون على كرسي متحرك.
غالباً أكون مسرعة كي لا يفوتني الباص. لكن ما إن أدخل المول الذي يبدأ بمحل ضخم للملابس النسائية، وأرى السيدات المسنّات في جميع أرجائه حتى أجدني لاإرادياً أمشي على مهل.
في أحيان كثيرة أجدني واقفة، أتظاهر بأني أتفحص قطعة ملابس. بينما في حقيقة الأمر أكون أراقب سيدة فوق السبعين تجرّب فستاناً أمام زوجها الذي يتحرك بصعوبة، وتستعرض جسدها بالفستان أمامه. أو أراقب سيدة فوق الثمانين تقيس قبّعة وتتأمل شكلها في المرآة.
أخرج من محل الملابس، أمرّ على محل المجوهرات ذي الإضاءة القوية المُبهرة التي تنعكس على المعروضات فتزيدها بريقاً وجمالاً. أجد فيه القليل جداً من الناس، من نفس الفئة العمرية.
الروائح المُنعشة المُنبعثة من مركز المسّاج تسبق وصولي إليه، وتأخذني إلى عوالم وأزمنة أخرى. من وراء الزجاج أستطيع أن أرى أيادي ممدودة وأصابع عجائز أظافرهن تُشذّب وتُطلى بطلاء الأظافر، وأقدامهن أيضاً. الأقدام موضوعة وسط وعاء فضي فخم، فيه محلول، تُدلّك بيدَي شاب أو شابة. فخامة الوعاء ونقوشه الجانبية، ثريات الكريستال المعلقة في السقف. الدخان الخفيف المنبعث والمتصاعد من الأواني الفضية في المدخل ينشر عبقه ويضفي على المكان أجواء ألف ليلة وليلة.
داخل مركز تصفيف الشعر سيدات مسنّات جالسات على كراسي جلد فخمة، مُريحة، يخترنَ نوع قصة الشعر أو لون الصبغة.
قبل أن أخرج من المول وأعبر الشارع إلى محطة الباص، أجتاز المحطة الأخيرة في المول وهي المقهى. كل الجالسين فوق السبعين، رجال ونساء، يتحدثون ويضحكون. يشربون قهوتهم على مهل، فيما أكون في معظم الأوقات أحمل قهوتي بيدي لأكمل شربها في الطريق.
لأكون صادقة، مشاعر الغيرة تجاه هؤلاء الناس وفي هذه اللحظات، ترتفع إلى أعلى الدرجات. لو أُطلق لها العنان يمكن أن تصل حد الحسد. هؤلاء الناس هم المولودون وفي أفواههم ملاعق من ذهب. طفولتهم عز ودلال. شبابهم رفاهية بلا مسئوليات. ولما كبروا وصاروا “رِجل في الدنيا ورِجل في الآخرة”، ما زال لديهم متسع لعيش الحياة. ناس استمتعوا بكل لحظة في حياتهم كما ينبغي، وأكثر مما ينبغي. ناس عاشوا حياة آلاف من البشر في حياة واحدة. وأنا من التعب والإرهاق فقدت حتى الرغبة في شراء الملابس التي كنت مدمنة عليها. أغادر بيتي للعمل أوّل الصبح، وأرجع قبيل الليل، وكل يوم أقول: في نهاية الأسبوع سأعمل كذا وكذا وكذا… ومن الإنهاك والتعب لا أقدَر… دنيا ظالمة ليس فيها عدل. دنيا عبث.
هذا هو السيناريو الذي أصادفه يوميا.
إلى ان قررت حضور عرس شهدي في ليبيا.
عرس شهدي يتطلّب ملابس خاصة. فستان ليوم الفاتحة، وفستان ليوم النجمة، وفستان الحفلة و، و، و … الله، الله، الله… أخيراً، استرجعت رغبتي ولهفتي لشراء الملابس. أخذت إجازة، وخصصت أياماً لشراء ما يلزمني. برنامجي أن ألفّ على أكثر من محل، أختار وأحجز أكثر من فستان، وبعدئذ أذهب مع صديقتي هُنيدة لأقيس وأجرب ونقرر شراء الأجمل.
جاء يوم اختيار وحجز الأحذية. كنت سعيدة ومبسوطة. في ذلك اليوم لم أشعر بالغيرة من النساء المسنات الثريات المنتشرات. اخترت زوجين من الأحذية بكعب عالٍ: واحد شاموا أسوَد، والثاني جلد به لمعة بجميع الألوان. الزوجان يتناسبان مع لون أي فستان، قررت حجزهما لأقرر شراء واحد منهما.
أقف في الطابور. في يدي فردة من كل حذاء وأنتظر دوري. أمامي حول طاولة الموظفة سيدة في نهاية السبعينات. ملابسها أنيقة جداً، الثراء الفاحش ظاهر عليها من الساعة والمجوهرات التي تلبسها. مستندة بيديها الاثنتين على مسند بعجلتين أمامها. معها سيدة في عمري تقريبا، واضح أنها ابنتها. ترتدي بنطال جينز وحذاء رياضة.. سمعت البنت تقول لأمها: اذهبي لترتاحي. ولمّا أُكمل أعود إليك. وأشارت بيدها إلى كرسي جلد كبير موضوع في الجانب جهة اليسار. تحرّكت السيدة، فتحرّكت أنا لا إرادياً لإفساح المجال لها كي تمرّ بمسندها. ما إن مرّت من أمامي ورأت الأحذية في يدي حتى توقفت، وكعادة الكنديين ومبادرتهم دائما بالحديث وإبداء رأيهم، قالت لي:
ـ أحذية جميلة… أحذية رائعة!
أجبتها وأنا أمسك كل حذاء من أسفل الكعب لتراه بوضوح أكثر:
ـ شكراً.. شكراً جزيلاً. أعجبتك الأحذية؟
قالت:
ـ نعم، أعجبتني، أعجبتني كثيراً…رائعة… رائعة للغايةً!
رددت عليها:
ـ أنا حائرة. لم أقرر بعد أيّ واحد أختار!
مدت يدها الناحلة، ذات العروق البارزة والأظافر المقلّمة بعناية فائقة، والمطّلية بلون زهري جميل، وهي ترتعش. تناولت فردة حذاء وراحت تتأملها. وبإعجابٍ وحسرةِ طفل يمسك في يده لعبة يعرف أنه لا يمكن أن يحصل عليها، راحت تردّد وكأنها تكلم نفسها: أحذية بكعب… أحذية بكعب!.. حدّقت في عينَيّ وقالت بنبرة صوت منخفضة وواضحة:
ـ اشتريها! اشتري الزوجين! أحذية رائعة!.. والبسي الكعب ما دمتِ قادرة على لبسه، قبل أن تُفيقي متأخرة مثلي.
أرجعتْ لي فردة الحذاء، وخبطت على المسند خبطتين بكفها اليسرى قبل أن تعود وتستند عليه.
واصلت طريقها وهي ملتفته ناحيتي، تهزّ رأسها، وعيناها تحدِّقان في عينَيّ.