محمود البوسيفي

 يطلق الماليزيون على عبد الله بدوي، الذي خلف مهاتير محمد في رئاسة الوزراء (2003) لقب ( الرجل النظيف).. فيما ينعته الدبلوماسيون والمثقفون بلقب ( السيد حسن السلوك).. وهم يتذكرون الصدمة التي أصيب بها رئيس الوزراء السابق مهاتير محمد عندما علم أن ( بدوي) لا يملك بيتا أو شقة في العاصمة كوالالمبور وهو وزير الخارجية (1991_1996) وكان قبلها وزيرا للتعليم (1984_1986) ووزيرا في مكتب رئيس الوزراء (1980_1981)فضلا عن مسؤوليات أخرى كان يكلف بها طوال فترة حكم مهاتير.. وأنه كان يتولى تسديد إيجار المسكن الذي يقطنه من مرتبه.

في الخامس من رمضان الموافق 31/10/2003 غادر مهاتير محمد مكتبه في رئاسة الوزراء تاركا المسؤولية الذي يتنافس الجميع على احترامه. وأعلن أنه سيعكف على كتابة مذكراته وإدارة مؤسسة فكرية غير ربحية تحمل اسمه، وأنه على استعداد لتقديم النصح إن طلب منه ذلك. قبل أربعة عقود كانت ماليزيا مجرد دولة زراعية متخلفة، تنوء بالفقر والتخبط في التبعية لمراكز الاستقطاب..

وكان مهاتير محمد يمارس الطب في عيادة صغيرة في أحد أحياء العاصمة، عندما تيقن أن أمراض بلاده وفي مقدمتها الفقر والتبعية هي أس البلاء الذي يخنق البلاد والعباد. في مطلع القرن العشرين تيقن المصلح الصيني ( صن يأت صن) وكان طالبا في باريس أن الفقر والجهل والتبعية هي سبب تخلف الصين، وعمد للعودة إلى بكين والعمل من خلال المؤسسات القائمة إلى أن حصل بعد اثنتي عشرة محاولة على مقعد في البرلمان ومن ثم الانتقال بالجدية والنزاهة المطلقة للظفر بموقع متقدم يؤهله للقيام باصلاحاته المثيرة.

مهاتير محمد الذي كان طبيبا متوسط الأهمية اخترق هو الآخر قبة البرلمان، ونجح بمعاونة رجال من طراز بدوي في طرح تصوراته لإخراج ماليزيا من شرنقة التخلف وحصد أصوات الناس في طريقه لتولي رئاسة الوزراء. وبهدوء مدهش قاد بلاده صوب مناخات جديدة وسط محيط تتصارع على الاستحواذ على شعوبه قوى عالمية ( أمريكا واليابان وأستراليا وأندونيسيا والصين).

كانت أولى قراراته الفالحة اقتطاع ما نسبته 40% من مجمل الميزانية العامة وتخصيصها للنهوض بالتعليم باعتباره الرافعة الرئيسية للتقدم. أشرف مع فريق من المهندسين على اختيار نماذج المباني التعليمية حيث يتجاور المعمل والمختبر مع الفصول، فيما يمكن للجالس قرب نافذة المكتبة تسريح البصر في حدائق المدرسة وملاعبها ومسرحها المجهز. بعد أقل من عقدين حصلت ماليزيا على عضوية نادي الدول التي تنفق نسبة لا تقل عن (8%) من دخلها على البحث العلمي.

تحولت ماليزيا إلى دولة صناعية تحظى منتجاتها بالقبول في أسواق أمريكا وأوروبا واليابان، فيما كان مركزها الإقليمي ( منظمة الآسيان) يتعزز ويسند موقعها الدولي الذي لم يعد بوسع أحد تجاهله. في عام 1997 عصفت أزمة مالية خانقة بالنمور الآسيوية بواسطة مضارب مغامر هو جورج سورس الذي سدد ضربات موجعة لاقتصادات المنطقة باستثناء ماليزيا التي لم تنجح فقط في تجنب العاصفة.. ولكن في فضح من يقف وراءها. كان الرجل الذي غادر موقعه مطمئنا لقناعاته وهو يختتم حياته السياسية بهجوم على الصهيونية العالمية وأدواتها التي تحكم العالم.. قد تحول إلى قدوة.