من الوهلة الأولى يتبادر للذهن أن الغرب يسعى لمعالجة الوضع في ليبيا بحكم كونه المسؤول الأول عن حالة الإنفلات الأمني بعد أحداث 2011 م ، ولكن الأمر عكس ذلك ، فقضية الهجرة غير المشروعة والتي صدرت إعلامياً على أنها أكبر الإشكالات التي تعاني منها أوروبا نتيجة الأوضاع السيئة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا ؛ هي في الحقيقة ليست إلا هدف يتحقق لأوروبا نظراً للحاجة الماسة للقوى البشرية ، والمتابع لإحصاءات معدلات النمو البشري لدول العالم يتراءى له حجم تزايد القوة الشبابية التي تملكها القارتين الأفريقية والآسيوية مقابل حجم ضعف هذه القوة لدى روسيا وأمركا وأوروبا ، لهذا تسعى الدول الأوروبية لاحتضان المهاجرين غير الشرعيين من أجل سد عجز الاحتياج المستقبلي لهذه الشريحة ، وهي خطوة هامة تعكس مدى التفكير الإستراتيجي لأوروبا عن غيرها من القارات ، وهذا ما يؤكده الرسم التخطيطي للجغرافيا العالمية بالنسبة للعمر الذي أصدره راديو أوروبا الحرة وراديو ليبرتي بمناسبة اليوم العالمي للسكّان في الحادي عشر من تموز يوليو من العام 2014م ، فقد بين هذا الرسم البياني حجم نسبة الأطفال دون سن 14 من مجموع السكان ، وقد تبين أن نصف سكان النيجر دون سن 14 ، وبتضاؤل اللون الأحمر في الصورة المرفقة يتضائل معها نسبة البلدان من الأطفال دون سن 14 ، والملاحِظ في هذا الرسم أن الدول الأوروبية من بين مجموع الدول الفقيرة من هذه الشريحة ، وهذا الأمر له انعكاساته السلبية في المستقبل على الاقتصاد الأوروبي ؛ خاصة إذا ما قابل هذا النقص ازدياد في نسبة الشيخوخة ، فالاقتصاد بالشباب سواءً المتعلم منهم وغير المتعلم ، لأن العملية الاقتصادية كغيرها تبدأ بالأفكار وتنتهي بالأعمال ، وبين هذا وذاك نجد الشباب ، كما أن النقص الشبابي في مقابل ازدياد نسبة الشيخوخة سيكلف الدولة أعباء مالية غير منتجة في جانب الرعاية الاجتماعية مع تحفظنا على هذا المأخذ ؛ نظراً للخصوصية الدينية والاجتماعية التي تميز مجتمعنا ، وأما كل ما قلناه لم يعد هناك مبرر للاحتجاج الأوروبي بمسألة الهجرة غير المشروعة من أجل التدخل في ليبيا أو التأثير عليها سياسياً ، وبقي أن نعرف الأغراض التي من أجلها منح المجلس الرئاسي شرعيته ، قد يقول قائل إن الوضع الإنساني للمواطن الليبي من أبرز الأسباب للدفع بهذا المجلس وحكومته ، إلا أن هذا العذر غير مقبول ؛ لأن من افتعل الأزمة المالية هم الغرب ؛ إما بمنع غير مباشر للمصرف المركزي الليبي في صرف الأموال على الرغم من ترشيده لعملية الصرف أو لحجب السيولة المالية عنه سواءً بعدم الإرسال أو الطبع أو بالتجمد ، وهذا أمر غير مقبول وماس بالسيادة الليبية ، إذ كيف يقبل أحفاد المختار أن تتحكم في سلطة قرارهم المالي دول بعينها بحجةٍ أو بأخرى ، ونحن بهذا الرأي لا نقول بلزوم ضخ السيولة لحكومات منقسمة وغير راشدة ؛ بل بتمكين المصرف المركزي من ضخ الأموال السائلة وفق منهج ترشيدي واضح ومحدود ، والغرب يدرك مدى امكانية المصرف المركزي الليبي بإدارة هكذا عمليات ولكنه لا يريدها ، فأخذ المصرف المركزي زمام العملية دون أي عوائق لا يخدم مصالح الشركات الاقتصادية الغربية ، لهذا قابلت سلطات القرار الغربي عملية ضخ السيولة المالية بلزوم تمكين المجلس الرئاسي وحكومته ، فما هما إلا سبل نيل المرام والسكين الذي ستقسم به الكعكة الليبية ، وأمام مؤامرة السيولة بافتعال انتقاصها رغبة في ارغام الشعب الليبي على الموافقة على مخرجات الإرادة الغربية لم يعد بالإمكان التحجج بالظرف الإنساني ، فالشعب الليبي بوعيه التام لنتائج هذه المؤامرة قادر على التضحية بالغالي والنفيس من أجل الحفاظ على ليبيا برها وبحرها وجوها ، فالمواطن يخلفه مواطن والجيل يخلفه جيل ولكن الوطن لا يخلفه وطن ، وإن ضاعت ليبيا فعلى الليبيون السلام .
قرآءة التاريخ الإنساني بات أمراً ملحاً ، ويلزم معه إعتماد محتواه في مناهج علمية لتعرف الأجيال الصاعدة والقادمة طبيعة التفكير الأممي في الماضي والحاضر ، وللأسف إن الحديث عن هذا التاريخ بات انعكاساً للخرف والدردشة غير المنتج ، ولا نستطيع أن نفهم هذا الأمر إلا في إطارين “الإفتقار المعرفي والتآمر” ، وما يؤكد هذا القول هو ما أبداه وزير المستعمرات كامبل بنرمان في تقريره الذي عرضه في مؤتمر لندن 1907م وهو بصدد الحديث عن خطر منافسة الشرق الأوسط الكبير لأوروبا الصاعدة آنذاك بقوله ( يكمن الخطر على الغرب في البحر المتوسط ، لكونه همزة وصل بين الشرق والغرب ، ويعيش في شواطئه الجنوبية والشرقية شعب واحد ، تتوافر له وحدة التاريخ واللغة والجغرافيا وكل مقومات التجمع والترابط ، وذلك فضلاً عن نزعاته الثورية وثرواته الطبيعية الكبيرة.
العامل التاريخي ليس هو السبب الوحيد الذي يدفع الغرب للسيطرة على المنطقة ، بل الحاضر أيضا وبقوة ، فمعطيات النمو للدول النامية تشير إلى إمكانية تفوق هذه الدول على الغرب خاصة إذا تسلحوا بالعلم وتمسكوا بثوابتهم ، وهذا ما تخشاه أوروبا وغيرها ، لهذا هي جاهدة للحيلولة دون امتلاك هذه الشعوب لسلطتها خاصة ما تعلقت بالجانب الإقتصادي ، فهو دينها وديدنها ، ولولاه لما رأينا أوروبا متحدة ، ولو صح خلاف ذلك لما كان افتقار اليونان سبباً في إزاحتها عن منظومة الوحدة الأوروبية ، وأمام عبودية الغرب للمال يلزمنا الحذر ، فأموال ليبيا ومصادرها في خطر ، وما نخشاه هو سعي الغرب لتدمير الإقتصاد الليبي من أساسه ، ونحن عندما نتحدث عن الإقتصاد هنا فإننا نعني به النفط والغاز ، فلا وسيلة لإمتلاك الغرب لمفاصل مؤسستي النفط والغاز إلا بإفلاس ليبيا ماليا من خلال تدويرها في فلك الأزمات المتعاقبة ، فهي الوسيلة المثلى لإنهاء ليبيا ، فداعش وأخواتها ما قامت إلا لمثل هكذا ، فهي وسيلة الغرب لوضع ليبيا في قبضته ، وكل ما نخشاه هو تمكنها من تنفيذ أوامر تدمير حقول النفط والغاز ، ونأسف كل الأسف أن نرى من بني جلدتنا من يحارب قيام الجيش والشرطة بحجة أنهما وسائل عودة الإستبداد ، وفي ذات الوقت نجدهم مرحبين بحفيد غريسياني المسؤول الأمني علي ليبيا ، أي عار جلبوه على البلاد ، هل يضنوا أن هذا إلاختيار جاء عن عبث !! ، وهنا لا أتحدث في الإطار الضيق ( العلاقات التاريخية الليبية الإيطالية ) بل في إطار أوسع من ذلك ، فمنح الغرب الملف الأمني الليبي لايطاليا بالخصوص هو انعكاس حقيقي لعودة النهج الإستعماري وهيهات ، ومن يستهن بما نقوله فاليلتفت شرقاً نحو العراق . الوضع جد خطير ، والوقت حاسم ، وحذاري من حكومات فاقدة للإجماع الوطني والمشرعنة من الخارج ، فهي لن تكون إلا في الإطار المرسوم ، والدليل : هل بإمكان السراج وضع خطة واضحة المعالم في بناء الجيش والشرطة ؟ أليس هذا هو طموح الشعب ؟ ألم يكن الإتفاق هو خروج التشكيلات المسلحة قبل دخول الحكومة ؟ من يحمي السراج الآن ؟ ظاهره قوة البحرية الليبية ، وباطنه المليشيات المسلحة المؤدلجة ، لأن البحرية لا تساوي شيء في قوتها أمام المليشيات المسلحة ، ولو لم يكن من رضا وتوافق بينهم جميعاً على المصالح لما منح صلاحية الدخول والإقامة
المجلس الرئاسي مجلس ضعيف ؛ وليس هو البديل الأفضل ، وليبيا اليوم تحتاج إلى بناء مؤسساتها العسكرية والأمنية بأسرع وقت ممكن بعد المصالحة والتوافق ، والالتفات عن هذه الخطوات الأساسية يعرقل ويؤخر الاستقرار والبناء ، وما يلزم الآن هو ضرورة حلحلة القضايا العالقة وعلى رأسها الخلاف السياسي الذي أثر على الدولة في مسماها ومبناها ، ولا يتم هذا الحل إلا باجتماع الأطراف المتصارعة سياسياً منذ فبراير 2011م ، فباتفاقهم تستقر الدولة ويبنى مستقبلها ، ولا استقرار في ظل الخلاف خاصة على العلم والنشيد كما أنه لا استقرار في ظل استمرار اختزال الدولة في حدث سياسي ، فليبيا بالجميع وللجميع ، ولن يكون للإقصاء محل مع التوافق الوطني الحقيقي ، وما رفض الحوار والمصالحة والتوافق إلا انعكاس لإرادة مستبدة ، والمستبد لا شك هالك . الخلاصة : إن صراع الأطراف الدولية اليوم صراع نفوذ ، وليبيا بما تملكه من معطيات مُؤَهَلَةٌ وبقوة لأن تكون محور مهم للصراع الدولي ، ولعل بروز إرادة وطنية حرة وشرعية هو الحل الأفضل لدرء النتائج السلبية لهذا الصراع ، فالغرب لن يتوانى عن أخذ مصالحه ما أمكن ، وحدود هذه المصالح تحددها الإرادة الوطنية بقدر حضورها ، ولا يعتقد عاقل فطن أن الغرب سيأتي بحكومة حرة تحافظ على أمن بلده وثرواته ، والشرعية الدولية مرفوضة من العنصر الوطني ما أمكن ، كما أن الحر لا يرضى أن يكون خصيم أهله ، وللأسف هناك من جر البلد ويجرها إلى مالا يحمد عقباه من خلال تجسيده للإستبداد ورفضه المشاركة طمعا في السلطة ، بل والتآمر على شعبه لتمكين مخرجات الإرادة الدولية على الوطن ، كما يجب علينا أيضاً أن لا نركن لراح على البلد بسبب ( الخلاف الدولي غير المحسوم على ثرواتنا ) كونه حائلا لنا عن أي مكروه قد ينتج عن هذا الصراع ، لأن توقع استمرار هذا الحائل ( الخلاف ) قد لا يَصْدُقُ ، فأطراف الصراع الدولي اليوم أكثر رشداً ، ولن تنجر لأي حرب عسكرية ، فحكمة الدبلوماسية الغربية وضعت هذا الخيار خارج منظومة الحلول السياسية ، وإذا ما كانت نتيجة صراع النفوذ على ليبيا قبل استقلالها ايجابية لصالحنا ، فإن صراع النفوذ اليوم قد يأتي خلاف ما نشتهي ، حفظ الله ليبيا وأهلها .
علي ضوء الشريف