قراءة :: ابوبكر عبد الرحمن
رواية العلكة، انتحار ياسوري كاواباتا
“وتصبح الكتابة فعل خلاصٍ
وفعل انتحار..
شعر. نزار قبٌاني..”
قتل ياسوري كاواباتا نفسه كما كان يكتب بمرارة عن ضنك الكهولة في روايته الجميلات النائمات، ويبدو أنه لخوفه من ذلك الكابوس الذي عاش مرارة فقدانه لجديه وهو في السابعة عشر من عمره، كتب تلك الرواية، كان يرعبه ذلك التسمر الطويل في الحياة الذي يحيله عجوزاً عاجزاً حتى عن ممارسة بعض حقوقه البيولوجية، ثم إلى موت متأخر. كانت مرحلة الكهولة ما كان يقضِ مضجع كاواباتا، و انتحر قبل بلوغ تلك المرحلة من حياته منتصراً على كابوسٍ نازعه منذ صغره، كما تُصور لنا فلسفته الأدبية، وكما فعل اليابانيون المتهورون الذين اشتهروا بطريقة الهاركيري التقليدية للموت و مسح عار الهزيمة.
تلك الرواية التي عاش تجربتها ڤابرييل ڤارسيا في الطائرة التي كانت تقله إلى نيويورك مع إحدى تلك الجميلات النائمات التي كانت غافية بجانب مقعده:”الشيء الوحيد الذي تمنيٌته خلال الساعات الأخيرة من الطيران هو أن يوقظها المضيف لأتمكن من استرجاع حرٌيتي أو ربما شبابي” يقول ڤابرييل متأثراً”عندما قدموا لي بطاقة النزول، عبٌأتها بنوع من المرارة. “المهنة: كاتب ياباني. العمر. إثنان وتسعون عاماً”.
لم ينتحر ڤابرييل، ولكنه فعلها بطريقة مختلفة، وكتب هذا الياباني بالتجربة بعدها أعظم رواياته الجمالية.
في رواية العلكة: سراب الليل، أو عنوانها القديم: عاشقان، يبدو كل شيء في الرواية غارقاً في الواقعيٌة، الأحداث والأشخاص والزمان بمراحله وحتى المكان يبدو موغلاً ومسربلاً في الواقعية، وجمالية هذه الرواية إنما تكمن في واقعيتها،”حين قرب شفتيه من أذنها كي يهمس فيها كانت عشر سنوات قد انقضت”، حتى أنك لتظن في وهلة أنها لازالت تكتب إلى يومنا هذا.. ولازالت تصور أحداثها ووقائعها حاضراً” وكان عليه عبر تلك السنوات العشر أن يكابد آلاماً لا حد لها، وأن يئن تحت وطأة إحساس ثقيل بالفراغ”، قبل ثماني سنوات من كتابتها، ومروراً عبر ذلك الزمان لازالت تصور أحداث الرواية ” مرت أيام وشهور وفصول وسنوات وهو يتسمر تحت المطر.. وهي تبتعد” ولكن ما القصة؟ وما الرسالة؟ ما الذي تغير خلال كل ذلك الزمان؟ من زمن كتابتها، و زمن تسمر بطلنا عشرة سنوات تحت المطر. إلى زمن هذا الواقع الذي نعيش أحداثه اليوم، لاشيء تغير سوى مرور أيام وشهور وفصول وسنوات ولوك من علكة إلى أخرى، ومن طعم إلى آخر، ولاشيء تغير غير عشاق تلك الحديقة وسلاطينها، والأمراء والرؤساء والثوريين الذين كانوا ولازالوا يمارسون متعهم وسلطتهم وإمارتهم ورئاستهم وثوراتهم فيها، لاشيء تغير غير معجبين أصابتهم لعنة ذلك التمثال الموجود في السرايا الحمراء بعد نقله إليها، تمثال لامرأة نحته ليبي سجن في إيطاليا ومن بعدها سجن في ليبيا كذلك، لينحت ذلك التمثال في سجون الليبيين، والذي أصبح وبالاً على كل من وقعت عليه عيناه بعد ذلك، هكذا يصور لنا الكاتب منصور روايته، الرواية التي منعت آنذاك و حرمها نظام العقيد من النشر داخل ليبيا وحجبها على القرٌاء، بعد أن سَجَنَ كاتِبها أكثر من عشر سنوات، لا لشيء إلاٌ لأنه كتب مسرحية كان عنوانها “عندما تحكم الجرذان”، عندما كانت مجرد قواف شعريٌة تهز عرش حكم نظام العقيد آنذاك “طال بالتأكيد شعر رأسه وذقنه وبلت ملابسه” يسرد الراوي عن البطل مختار” ونساه أهله وأصحابه، نسته المدينة كإنسان وصار جزءاً من حديقة مهملة” و لاشيء تغير غير مضغ الأزليٌ مستمر ولانهاية له، وبنفس لوك بطلتنا فاطمة في الرواية لازالت هذه العلكة تعيد تمثيل بئر الحرمان، وحالة من التناقض العارم “كانوا يعيشون كأبناء البرجوازية الناصرية ويهتفون كفقرائها، كانوا يعيشون حالة بئر الحرمان” عندما كانت العلب تصور تلك الحقبة” كانت العلب تؤرخ لتطور وتغير الاستهلاك في ليبيا”، حيث كانت السياسة تهيمن حتى على الاستهلاك وتوجهاته. كما اكتشفه أستاذ الاقتصاد وأخفاه من دراسته الرائدة. حيث كان بطلنا محور اهتمام مخرج المسرح عندما كان يؤدي ذلك المشهد وينحني ليلتقط إحدى العلب:”فيبدو كأنه وثني يخرج من الأوديسا ملتقطا سفينة يوليسيس من براثن الطوفان” وظل المخرج يلوك ذلك المشهد هو الآخر لعشر سنوات طوال حتى أنه صار جزءاً من ذلك المشهد ويمتثل أمام البطل متأملاً لوجود العلكة، حيث فرضت العلكة على تشير الرواية فلسفتها على كل مظهر من مظاهر الحياة حتى أنها :”شيدت بيوتا لا أساس لها وهدمت بيوت عز وكرم” أكثر من ذلك، “تحولت إلى سراب ليل أزرق شفيف يطارده الجميع” في مجالات التعليم والفنون والآداب والتراث والتاريخ والسياسة والاقتصاد. وكل ذلك يحدث حتى يفاجأنا الراوي بدخول رحمة المفاجئ، والدة بطلنا مختار وزوجة الأفندي عمر ” وألوكها وتلوكني” وشيء من قبيل” يا قارورة العسل، و يا زين اللبن”!،
يسرد الراوي موثقاً بأن الأرجيلة كانت في ذلك العهد مكسباً ناصرياً الليبيين قد ارتبط بأمجاد الحرية والاشتراكية والوحدة :”ذلك الثالوث المقدس الذي أشعل فيهم وفي نفطهم نيران الإثارة والبذل والعطاء” من أجل الأمة وعطاياها. والذي كانت نتائجه دون تحقيق أهداف الأمة مع الأسف”
تظهر بطلتنا فاطمة في مشهد مع أستاذ الآثار وقد خسر شرفه الأكاديمي في ملاحقتها، عندما ظن بأنها طالبة نحت بعد سؤاله لها “تدرسين النحت؟ فتجيبه بجرأة أقرب إلى الوقاحة والتفسخ” لا.. أدرس تحول الرجال إلي تماثيل” ويخرج بعد تسمره الطويل أمام التمثال عندما أوشكت السرايا الحمراء أن تغلق عليه الأبواب، ويتوقف أمامها مقابلاً الساحة الخضراء، “دون أن يبحث عن ذلك التقابل والتضاد الذي يثيره الاسمين الحمراء والخضراء”
تمثال المرأة التي تزم شفتيها مختلجة، والذي نحت بخاصيتين متناقضتين هما الاستسلام والتهور، ويمتزج بين موناليزا الرسام دافنشي وداود النحات مايكل أنجلو بمعالم عصور النهضة والفن الأوروبي، كان أهم جزء من وجود البطل، والذي اكتشفه الحرس داخل سجن السرايا مصادفة عندما كان الأسير الليبي يعمل على نحته ” ولو أنهم أبلغوا الباشا في نوبة من نوبات تدينه لأحرق الأسير والتمثال، ولولا الجندي السيشيلي الذي كان يقبٌل
التمثال ويعانقه بعد أن أصيب بلوثة جنون،” ليتم تحطيم التمثال ولفقد بطلنا عنصراً من عناصر وجوده” كأن لعنة تصيب الذين حدقوا فيه وتأثروا به، بداية من الجندي السيشلياني وبطلنا والغفير وحتى الفيلسوف، مثلما تأثر العجوز ايغوشي بالجميلات النائمات بجانبه. حيث كان الاستسلام والتهور، الجمود والحراك، الوجود والعدم، محور أحداث الروايتين. الأفندي عمر الذي جاء إليها، لم يكن ابن طرابلس مولدا ولا أصلاً والذي جنده الإنجليز ومن ثم الملكيين، ورغم أنه كان سكيرا ولم يكن متدينا “إلاٌ أنه ظل يؤمن ببركة الملك، وبصيام رمضان وبصلاة الجمعة” وكأن هذا التناقض جعله يسكر حتى الفقدان كل ليلة جمعة، كل خميس يسكر الأفندي الذي ترك له الثوريون ثروته وبيته واستراحته، حتى أخمص قدميه وهو يجر كل ليلة فتاة متهتكة بالعلكة “ويحلم بنفسه يصغر ويصغر حتى يغدو نطفة تسبح في ظلام دامس أليف” وبعد ذلك ينهض منتصف النهار ويغتسل ويتعطر ويكتسي بالأبيض “ويمضي للصلاة ويطلب الرحمة والمغفرة لحياة الليلة الفائتة”، يصور الكاتب هنا بطلتنا فاطمة المتهتكة بالعلكة، والذي انتظرها بطلنا مختار لعشر سنوات طوال متسمراً، كانت من تلك البائعات للهوى اللواتي جرهن الأفندي في ليالي الجمعة، وكان زبونها الذي اعتادت خدمته وتجميع مبلغ من أمواله لمشروع التجارة بالعلكة ، انتزعت منه روحه في نهاية الأمر. وبعد وفاته ظلت تقترب من والدته لكي تضمن لبطلنا مختار ميراثه الذي كانت طامحة لنيله وبدون أن تلتفت إلى بطلنا الذي كان متسمرا في الحديقة لعشر سنوات طوال حتى!. الحديقة التي كانت بطلاً هي الأخرى منذ العهد العثماني والإيطالي “نجت من التدمير” يتهكم الراوي سارداً :”طوال الحرب العالمية الثانية وذلك أمر يدعو للدهشة بالتأكيد”، والتي فقدت هدوءها الإنجليزي إثر إطلاق جنودها النار على متظاهرين متجمعين فيها يطالبون بالاستقلال، في حادثة قتل تسببت فيها العلكة التي كانت من أهم مظاهر التهتك. “كانت مكاناً للمتشردين والعاملين بالسياسة وبالتأكيد للعاهرات الملتهيات بلوك العلكة”، ولولا سكرة ذلك المندوب الهاييتي…
التاريخية لما نالت ليبيا الاستقلال، واعترافا بجميله في تقرير مصيرنا، تسامحت الحكومة السنوسية مع تجارة الخمور. حتى أسموا الشارع الخلفي الذي تتكئ عليه الحديقة باسمه. بعدها استعادت الحديقة مظهرها وتكونت جمعية أهلية للبيئة كان من أعضائها ذلك الرسام الذي حاول رسم بطلتنا كما يرسم الفنانون الأوروبيون موديلاتهم.
إن شخصية بطلنا مختار تستمد معظم ملامحها وتجاربها وهمومها من شخصية الروائي نفسه- والتي تستمد وجودها من تمثال السرايا الحمراء “لا أعرف تردد هذه العشر سنوات الطوال في مواقع وأزمان هذا النص” فهنالك كثير التماثل بين تجربة الروائي وبطلنا،: “ظل يراها وهي تبتعد بمعطفها الأسود وشالها الأحمر تحت المطر، لعشر سنوات طوال”، وبين معاناة الروائي وسجنه لأكثر من ذلك، ويبدو أن ذلك التسمر لأكثر من عشر سنوات، يكتسب قيمة حسيٌة واقعيٌة في محاولة تسمر يائسة من بطلنا لانتظار فاطمة، بطلتنا التي تبدو أنها تمثل قيمة استعاريٌة كذلك في البحث عن الحقيقة، حقيقة الواقع السياسي والاجتماعي من جهة، والبحث عن حقيقة فلسفية شاملة من جهة أخرى، ونجد ذلك البطل يلاحق هذه الحقيقة الهاربة باستمرار، وهو متسمر في حالة تجميد للزمان، ضمن الظروف السياسية المتدهورة في الثمانينات، فنجد ذلك التوازن بين أزمة بطلنا مختار الخاصة من جهة، وأزمة الواقع السياسي للثورة الاشتراكية- إن كانت اشتراكية، والتي لا تختلف عن أزمة واقعنا السياسي والاجتماعي هذا كثيراً، بل ويمكنها التعبير عنه كما هو في حاضرنا اليوم ، والذي يكشف عن مراحله وتناقضاته وأبعاد الواقع السياسي الذي أفرزه ثوريي تلك الحقبة الزمنية.
علاقة بطلنا مختار التي يمكن لها أن تكتسب دلالات حسيٌة ورمزيٌة معا، كتعرٌف فعلي على الواقع السياسي وعلى المصير الذي آلت إليه بطلتنا فاطمة، عبر نضال بطلنا من أجل اكتشاف الحقيقة بمعناها الفلسفي الشامل، الذي كانت العلكة تحتل حيزاً كاملاً فيه. ويظل سراب ليل في عدم القدرة على الوصول إلى معرفة يقينية مؤكدة حتى النهاية.” ظلت حياته لوكا تراوح بين اللوك العصبي والمنشرح، بين اعتماره لقبعة أبيه الكبيرة والثقيلة، وبين سوط أبيه السوداني المتدلي على الحائط تحت القبعة الكبيرة والثقيلة”
وكان بطلنا مختار متسمرا ينتظر تلك القبلة التي لا تجيء، كان ذلك البطل المعذب الذي يود أن يشعر بجذوره الإنسانية والوطنية التي افتقدها طوال عشر سنوات متسمرا تحت المطر، صار وجوده عدما، وتسمره علكة. “صار وجودا علكة”،
حتى، و بكل بساطة، انتصرت العلكة على تسمره طوال عشر سنوات تحت المطر ،ولا تزال هي تبتعد. وظل الزمن عدو الحب الأول.|
إن رواية العلكة مربكة حقاً، فهي نتاج مختلف عن الروايات التقليدية كما أكدت عائشة إبراهيم، وقراءة محمد الأصفر وفاطمة القمودي، والذين ساهموا كثيراً في بناء فكرتي حول قراءة رواية العلكة ، فالصيغة البنيوية تتخذ شكل النصوص الأدبية و التوثيقيٌة، القريبة جداً من صيغة مقالات منصور الثرية التي أكٌدت هذا الزعم لها بقراءة أكثر من ثلاثين مقالة له تكتسب خلفية ثقافية وفنية، فالرواية لا تخلو أيضاً من الطرافة و السخرية مثلما تتضمن بعض مقالاته ذلك. مقال تيوسنا الثمينة مثالاً.
انتحر ياسوري كاواباتا عندما حقق أسمى أعماله الأدبية التي يتناولها القرٌاء إلى يومنا هذا، وفعلها أيضا الياباني بالتجربة ڤابرييل ڤارسيا ماركيز على طريقته في أعماله الجمالية هو الآخر.
لم ينتحر منصور بوشناف على طريقة كاواباتا، إلاٌ أنه فعلها بطريقته الأدبية التي يلوكها قرٌاء العالم العربي والغربي اليوم، ويتحرق في انتظار انتحار آخر من خلال الواقع الليبي الذي قد تصوره لنا “الببغاوات” في الأيام المقبلة.