- أمواج أبوحمدة
رواية “ثمرة النار” هي الرواية الثانية لحنين الصايغ صادرة عن دار الآداب عام ٢٠٢٥ وعدد صفحاتها ٣٦٨
وتأتي كرواية متممة او رواية مترابطة مع روايتها الأولى “ميثاق النساء”، الرواية التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام ٢٠٢٥ والرواية التي استحوذت على قلوب القراء وأثارت مشاعرهم واهتمامهم.
لا أريد ان أقول أن ثمرة النار هي رواية الجزء الثاني من ميثاق النساء، انما هي رواية اللوحة الأكبر التي تضيء على الخلفية الإجتماعية والتربوية لأمل، بطلة رواية ميثاق النساء. الشخصية المركزية في هذه الرواية هي والدة أمل، نبيلة، تلك الأم التي لم تغادر قريتها يوما ومع ذلك استطاعت أن تحلم وتطمح وتحقق في ظل واقع قاس وقوانين صارمة وموارد متواضعة وظروف معاكسة. قد يتراءى للقارىء ان هنالك فرقا كبيرا ما بين نبيلة الأم وأمل الإبنة، لكن في حقيقة الأمر التشابه بينهما كبير جدا. فبالرغم من تمرد أمل الواضح وخضوع ورضى نبيلة اللافت، لكن كلا من الإمرأتين تحمل قدرا من الإصرار والتحدي والتطلع وحب الذات الإيجابي. الفرق الوحيد ان كلتيهما عاشتا في زمن مختلف وبالتالي كان هنالك تفاوت في مقدار الجرأة في ما يتعلق بالتعامل مع الأحكام السلطوية وكسر القيود المفروضة والخروج من عزلة الصمت.
حكاية أمل هي حكاية أجيال من النساء الصبورات رغم الظلم، والمنعتقات رغم القيود، والرائدات رغم النمطية الاجتماعية، والمؤثرات رغم الذكورية، والنسويات رغم كل الأعراف ورغم كل اللاوعي الجمعي الذي تنشأ عليه النساء. فنبيلة وحياتها واختياراتها هي المحور الأساسي للرواية. هي التي طوعت ظروف حياتها، التي لم تخترها ولم تفتتن بها، لتعيش حياة أقرب ما تكون الى ذاتها فخلقت لنفسها ثلاث شخصيات استطاعت من خلالها أن تكون مستقلة ماديا ومؤثرة اجتماعية ومرشدة علاقات زوجية وطاهية وخبازة وهي الأم والزوجة والإبنة والصديقة. نبيلة هي مثال لإمرأة جاهدت بفطرتها وتمسكت ببصيص الحرية وأمل النجاة وحاولت الموازنة ما بين القاتم خارجها ولنابض داخلها، وما بين المفروض عليها والحالم فيها.
ومن بوح نبيلة لقصتها بكل ما فيها من انكسارات وعجز وحنكة وتردد وقهر ووعي وأمل، تعود بنا حنين الصايغ إلى الجدة مهيبة والخالات سمر ونجاة والبنات أمل ونيرمين وسناء و والحفيدة رحمة. رواية أجيال من نساء العائلة والجارات والصديقات، اجتمعن جميعهن في سردية حنين الصايغ ليجسدن كم الظلم الذي تعاني منه النساء في المجتمعات العربية والتضحيات التي يتوجب عليهن القيام بها والصمت الذي يلزمهن لكي يخلقن نوعا من الرضى الذاتي والتعايش والتسليم. تتقاطع أصوات هذه الشخصيات النسائية وتعدد ملامحها وقصصها وتتقاطع أيضا أزمنتهن وملامح تلك الأزمنة ليجسدن جميعهن واقعا حقيقيا عن نساء يعشن حياة بأكملها تحت وطأة القيود ويتحملن أقدارا مرعبة من دون أن يتخلَّين عن حلم الحرية وتحقيق الذات.
ولا يمكن ان يكون هذا النسيج من الأجيال متكاملا في ظل غياب ذكور العائلة والمجتمع المحيط بها. فهنالك علي الأب وزوج نبيلة، وإبراهيم وذوقان أخواها، ومهند الحبيب والشيخ ريدان ومكرم وإياد وغيرهم من الشخصيات الذكورية التي غالبا ما يحكمها التزمت الديني والأعراف السلطوية والخوف من التغيير والسلبية في التعامل مع أمور الحياة. هؤلاء الرجال كانوا أقفاص نساء هذه الرواية وكانوا أيضا مفاتيح تلك الأقفاص. فكلما زاد خوفهم وغضبهم وتزمتهم، كلما زادت الفرص لوعي أعلى للمرأة ورغبة أعمق للإنعتاق. وكلما زادت أيضا الجروح والندب والصدمات النفسية والألم المتوارث والهزائم المتكررة.
يمتد ويتقاطع زمن الرواية مع شخصياتها فيكون العصر الزمني لثمرة النار ممتدا من ١٩٦٠ الى ٢٠٢٤. ومن خلال هذا الزمن تذكر حنين الصايغ أهم الأحداث السياسية التي طرأت على لبنان، مثل الحرب الأهلية اللبنانية واغتيال الرئيس رفيق الحريري وانهيار الليرة اللبنانية والملف السوري في لبنان. وفي نفس الوقت تستعرض من خلال حبكة الرواية الكثير من الأحكام والأعراف والقوانين التي تحكم الطائفة الدرزية في لبنان. كأنها بذلك تعقد مقارنة ما بين الزمن وأحداثه وتقدمه وما بين تحجر الأحكام والسلطة والأعراف وفقدانها القدرة على المواكبة والتطور والتأقلم.
كما في رواية “ميثاق النساء”، تستعرض حنين الصايغ الكثير من تناقضات المجتمع الدرزي في لبنان من حيث العادات والمعتقدات والأحكام. قد لا يستسيغ البعض هذا الاستهجان. ولكن، على ما أعتقد، فإن تناقضات وعرفية أنظمة هذه الطائفة الأقلية تنطبق وتشمل في الإطار الكبير المجتمعات العربية قاطبة، فمجتمعاتنا غارقة في تفاصيل احكامية ذكورية قد آن الأوان لإعادة النظر فيها من باب التصليح وليس التدمير.
كل شخصية في هذه الرواية، سواء ذكورية او نسوية، تشكِّل طبقة من المأساة الجماعية. ترسم حنين هذه الشخصيات بالكثير من الصدق والواقعية والشفافية لتظهر واقعا أليما جميعنا نحياه ولو بتفاوت بالمعايير. تهتم حنين بإظهار فكرة ان الأذى الإجتماعي والنفسي ينتقل من جيل إلى آخر ولا يلتئم إلا بالتغيير الجذري.
تطرح حنين الصايغ في “ثمرة النار” العديد من التساؤلات عن غضب الإنسان الداخي وأهمية التصالح الذاتي وعن بذرة الاعتراض التي تولد في الطفولة ونحملها معنا الى ان تنضج وتصبح جاهزة للتمرد، وعن الرضى المدجن والفرق في نظرتنا إلى الإيمان المخرج والإيمان المأزق. تتخذ الأمومة محورا مركزيا في هذه الرواية فتحاورها حنين بالكثير من الحب والمسؤولية واللوم والتقصير والعطاء، محاولة الوصول إلى تعريف محدد ومقبول للأمومة وأبعادها وأنماطها وتعدديتها. وتتساءل عن سبب الإصرار على ربط مصائر وخيارات الأهل والأبناء معا وكيف يتخرج الانسان من طفولته مشوها بندبات حفرها الأهل في غياب الوعي. كذلك، تتطرق إلى أثر القسوة على تركيبة الإنسان وتعامله مع ذاته ومحيطه، وتكشف عن معاناة الغربة والمثلية والانفرادية في مجتمع مغلق ومحافظ، والنسوية الفطرية بعيدا عن المنظمات الدولية. وتبقى السلطة الدينية وأحكام المشايخ الدرزية هي المحور الأساسي الذي ترتكز عليه معاناة النساء المقموعات والمصادرة حقوقهن في مثل هذه المجتمعات.
تتكاثر أسئلة هذه الرواية حول القدرة على التحرر من ثقل المجتمع القاسي ومنهجية التربية المتوارثة لتبقى نبيلة وأمل وراغدة وسمر وغيرهن أسيرات ما بين التمرد والإذعان وما بين القبول والرغبة وما بين المواجهة والانكماش، مهددات دوما بذلك الخوف الساكن والمتوارث والمتواطىء ضد الوعي المأزوم.
لغة الرواية محكمة وانسيابية ومتماسكة ومشوقة وفيها بعض من التأملات العميقة. والأهم من ذلك أنها لغة متدفقة ومؤثرة ومشحونة بالوجع وتحمل القارىء على قراءة الرواية في جلسة واحدة. أعطت حنين مساحة جميلة لكثير من شخصياتها ليكونوا ويعبروا ويبوحوا ويرصدوا. والأهم أنها أعطت مساحة لأصوات النساء العاديات في القرى البعيدة لكي يتواصلن مع العالم الأكبر الذي، وإن كان مختلفا لكنه متشابه أيضا. هنالك بساطة وكثافة في أسلوب حنين الصايغ الكتابي الذي يجعل رواياتها قريبة من القلوب وقادرة على جعل النص محسوسا بطريقة شخصية.
هذه رواية ترصد معاناة النساء وألمهن والظلم الذي يقعن فيه. رواية فيها الكثير من الألم لكنها أيضا فيها الكثير من الأمل، وفيها الكثير من النسوية والطرق البسيطة التي تخلقها الأرواح الحرة لتقاوم وتختار وتنهض. “ثمرة النار” هي رواية تشرح المجتمع بلا خجل أو خوف لتكشف عن التصدعات العميقة والأليمة.
هل يا ترى فرغت حنين الصايغ ما في جعبتها من انتقادات وغضب وحب وحنين ولوم واحترام لمجتمعها الدرزي؟ هذا ما سوف نراه في عملها القادم الذي نتوق له من الآن.
Dsughters of Eve Book Club














