قراءة :: عابد الفيتوري
تقديم
كتاب ” ري الغليل في اخبار بني عبدالجليل ” للمؤلف محمد بن عبد الجليل سيف النصر . فرغ من تأليفه عام 1852 م .. لم يحقق بعد . رغم ان الاستاذ جمعة الزريقي ذكر في مجلة ” الرقيم ” ما يفيد انه قيد التحقيق بمعرفة الاستاذ حسين المزداوي ، وتبين انه لم ينشر ان اكمل تحقيقه . حاولنا ان نعرف شيئا عن الكتاب .. لم نتوفر سوى على شذرات مما ذكره الاستاذ على مصطفى المصراتي في كتابه ” مؤرخون من ليبيا ” .. وجاء في وصفه للكتاب ” يصنف ضمن كتب السير والرحلات .. ضمنه المؤلف سجل لأحداث ووقائع تاريخية في ليبيا والبلاد العربية التي لجأ إليها ، وتجول بها ، ويحكي في أسلوب مثير مشاهداته في الصحراء الليبية ما بين أرض فزان وصحراء سيوه ، وريف مصر والقاهرة ، ومشاهداته في الحجاز وتونس والجزائر ” .. خصص الاستاذ المصراتي حوالى 14 صفحة من كتابه للتعريف بالمؤلف ومضمون الكتاب .. وفيما بعد حقق بلهجته العامية من قبل الدكتور عبدالمولى البغدادي .
الكتاب منه نسخة وحيدة مخطوط بالمكتبة الوطنية بباريس .. وهي النسخة التي اعتمدنا تحقيقها .. كتبتها المؤلف باللهجة العامية .. وبخط مرتبك في كثير من الاحيان .. وفي عملنا هنا نتوخى إعادة صياغتها باللغة الفصحى .. دون مساس بتراتبية السرد ، او الاحدث والأفكار .
هالني كم الالم وعذابات التنقل والترحال التي عانى ويلاتها هذا الرجل .. وحيدا قطع الفيافي والقفار .. شطف العيش وقلة الزاد .. قاسى ويلات الجوع والعطش .. ونوائب الدهر .. وصروف القهر .. وكم هي المخاطر التي ترصدته وكادت ان تعلن نهاية الرحلة والترحال .. المسافات الطويلة .. الهلع والخشية والملاحقات التي لا تنتهي .. تجربة فريدة قاسية .. وصبر جلد .. كان مثالا للرجل الذي لا يعرف اليأس طريق اليه .. ثابر .. وغامر .. وعاش شريدا طريدا بعيدا عن موطن الاهل .. وكم هي النهايات الحزينة مؤلمة .
كتب احد افراد الاسرة السفيرغيث سيف النصر معلقا على فحوى الكتاب : ” كتاب رى الغليل فى اخبار بنى عبالجليل بخط اليد كتبته محمد بن السلطان عبد الجليل بن غيث بن سيف النصر سلطان فزان منذ 1812 وهو تاريخ انشقاقه على الحكم القرمنلى وحتى مايو 1842 وهو تاريخ مقتله وشقيقه سيف النصر وعدد كبير من افراد اسرته وجنوده مطلع العهد التركى الثانى على يد قوات الوالى على عشقر باشا بخديعة من القنصل البريطانى وارنجتون الذى كان يدعى صداقته ، والكاتب هو احد ابنائه الذين نجوا من المذبحة وتوجه شرقا الى الكفرة وسيوه وجنوب مصر الى القاهره ثم توجه الى الحجاز وقضى عامين عاد بعدهما الى مصر ومنها توكل الى الاستانه مقر الخلافة لتقديم شكواه للباب العالى إلا ان الهدايا التى سبقته اليها سدت الباب فى وجهه ، بل نُفى الى احدى الجزر التركية .. واستطاع ان يهرب من السجن ويصل الى تونس عن طريق مالطا ، ومنها توجه الى المغرب الاقصى قاصدا عمته شقيقة وازده زوجة احد سلاطين المغرب إلا انه خلال اقامته فى الجزائر كمرحله انتقاليه اعتقلته السلطات الفرنسية التى كانت تحتل الجزائر وقتها ونفته مع مجموعه من الجزائريين الى فرنسا حيث انتهى فى باريس . وكتب مخطوطته هذه بعد عشر سنوات من مغادرته ارض الوطن ”
لم يذكر المؤلف في ثنايا المخطوط حادثة سجنه من قبل الفرنسيين ونفيه لباريس .. وارجعها الى اقتراح رفيقه الحاج عبدالرحمن الذي سئم ملاحقة والي بسكره ( الحاكم بامر الفرنسيين ) .. وتهديده له بطرده منها قسرا .
الكتاب كتب باللهجة العامية .. ولم يخلو من تكرار للحادثة عينها ، ولو اننا قمنا بتحقيقه كما كتب .. فقد يبلغ متن الهوامش ما يزيد عن حجم الكتاب .. لذا تراءى لنا اعادة صوغ العبارة باللغة الفصحى كلما امكن ذلك .. تبويبه الى فصول تتوائم ومراحل الرحلة والاماكن التي حل بها .
الفصل الاول
اما وقد بلغت اواخر العمر .. وانقضى منتصف القرن السابع عشر .. ونحن اليوم في العام 1852 م .. ورأيت ما رأيت من اهوال العصر .. ومناكفات اصناف البشر .. وحان المستقر .. سأروي لكم ما جرت به المقادير .. بلا تبديل ولا تغيير .. وذلك انني لما بلغت سن الثالثة عشر ، تولى عمي عمر شقيق والدي امري ، فانتقلت الى ارض تبو برفقته .. وأجزل معاملتي بصحبته .. في مقام ابنائه وعثرته .. اذ لم يكن لديه في ذلك الوقت احفاد .. بعد مراس الترحال وجوب البلاد .. فأولى اهتمامه بتعليمي .. وأدخلني محاضر الكتاب لحفظ القران وتلقيني .. ولما فرغت من حفظه بالتمام .. اقام لي عرس باذخ في حضرة جمع الانام .. ذبح فيه مائة شاة من غنم الصدار .. واستضاف الكثير من اهل النواحي بالجوار .. باركوا لي وله الاجازة والتكريم .. على ما افاض الرب من النعيم .. بحفظي للقرآن الكريم .. وما ان بلغت سن الثامنة عشر في ذلك الزمان .. ارسلني الى بلاد ” كاشنه ” ، و” برنو ” محملا بالهدايا وود الامان .. الى حضرة ملك ملوك العرب والسودان .. السلطان ابن السلطان .. المرحوم محمد بيلو ( ) الغني عن التعريف والبيان .. نسيبنا وزوج اختنا منذ سابق الازمان .. وقد اكرم نزلي عنده بترحاب ، وقبل الهدايا ببهجة الاصحاب .. واسكنني دار اختنا ابنة عمي بعد طول غياب .. ومرت الايام مر السحاب .. فإذا بأختنا تحفزني للزواج .. وتختار لي فتاة من ذوي الجاه الاصحاب .. الملكة الزهراء ابنة الملك الاعظم الحاج البشير .. فوافقتها حسن التدبير والتقدير .. وأقيم لنا عرسا ابهج الاسارير .. سبع ايام بلياليها كما في الاساطير .. ببلاد ” برنو ” ارض الولاة المشاهير .
اما والرحيل قد حان .. وشدنا حنين العودة لمقام عمنا حيث كنا وكان .. وفي يوم وداع الخلان .. رافق ركبنا حضرة السلطان .. محمد بيلو سيد البراري والقفار والوديان .. صحبة اختنا وحجابه ووزرائه وذوي الشأن .. وعشرون الفا من عساكر السودان .. واهدى لنا خمسون خادم من الاقنان .. وخمسون غلاما من الفتيان .. وخمسون ناقة وخمسون جملا وشيء من الذهب بريقه لمعان .. واهدى لنا نسيبنا خمسون غلاما وعون الطريق ومن الطعام ضعفان .. وأهدت لنا اختنا رقبة نعامة حشوها من تبر الذهب غالي الاثمان .. وركبت زوجتنا في هودج عربي مترادف الاوزان .. ومضينا والركب يزحف بافتتان .. وبعد ثلاثة عشر يوما من الترحال .. بلغنا مقصودنا في احسن حال .. واستقبلنا عمنا بفرح وشوق فاق الوصف والخيال .. وأرسل الى شقيقنا محمد بأرض فزان .. وكنا في شوق للقائه والعمر فان .. وقد ثم بحضوره الانس .. وازدانت البهجة واكتمل العرس .. وامضى عندنا شهرين .. وكان لنا عز قرين .
فلما اراد الرجوع الى ارض فزان ، اهدينا له مائة وخمسون رأس من رقيق السودان ، وخمسة جمال هجن اعشاريات ، وناقة اعشارية لابينا ، وركبنا معه لنهارين متتاليين ، وأبقانا بالسلامة ، ورجعنا ، فلما عدنا قريب من ارض تبو ، اصطدنا الكثير من الوحش ، والعاج ، والكركدن ، ورجعنا الى عمنا ، فأقمنا ببلاد تبو عامين ، وعندما صار عمري واحد وعشرون عاما ، ارسل الينا ابينا جواب ، قال فيه : ” الى حضرة اخينا عمر ، وبعد السؤال عنكم وعلى جملة الاهل ، ومن تعلق بكم خاصة ، بودنا ان ترسل الينا ابننا محمد .. لقد طالت وحشته .. واشتقنا اليه .. وكذلك امه هي الاخرى لا تفتأ بالسؤال عنه .. قدم لي عمنا الجواب ، قرأته ، ثم قال : هيئوا انفسكم للسفر .. جمل هجين ، يرافقه خمس وعشرون هجين ، على كل هجين اثنان من الرجال ، وركب معنا رجل خديم لنا من اهل تونس اسمه بابا علي كاسكين .. وحال بلوغنا مشارف فزان .. ارسلت هجان الى بلاد مرزق .. الى اشقائي هناك .. وما ان ترامى لهم خبرنا .. ركبوا في خمسمائة فارس من غلمانهم ، وبنو عمومتهم .. والتقينا .. ونزل اخوتي عن ظهر المطايا .. وعانقوني .. ونزلت جميع القوم الذين معهم ، واستقبلونا راجلين .. ونزلنا نحن ومن معنا ، وتمازجت العناقات في مهرجان كعرس شعبي كبير .. لهدت الخيل .. واصطف اهل مرزق مهللين .. دقت الطبول .. ولعلعت المقرونه .. مرزق بناسها رجال ونساء .. والمرابطين كانوا في استقبالنا ، وضربت النوبة العثملي .. عم الفرح .. غاية الفرح .. وضرب الطبجي المدفع .. ونزلنا بالقصبة المعلومة في بلاد مرزق .. فأقام لنا اخوتنا عرس لسبعة ايام .. وأقمنا في بلاد مرزق سبعة عشر يوما ، ثم ركبنا وركب معنا خمسون هجين ، وركب اخوتنا رفقة وداع .. ليوم كامل ، ابقونا بالسلامة .. ورجعوا ، وفي اليوم السابع ، بلغنا بلاد بني الوليد ، خاب املنا .. اقمنا بها ثلاثة ايام .. وجاء الخبر .. والدي بنواحي ارض الزعفران ، ركبنا وتوجهنا الى حيث كان .. وبعد مسير يوم وليلة .. ، بلغناه .. تعانقنا بعد طول غياب .. لم نلتقي طوال فترة اقامتى في ارض تبو .. وكان في ضيافته يومها رجل فرنسي .. محب لأبينا .. قدم له اربعة مدافع .. صغيرة .
فرح عمنا هو الاخر بقدومنا .. وإخوتنا .. وأولاد عمنا ، وكأني الميت الذي بعث من قبره .. عمت البهجة العائلة .. والأهل .. لكن جوابات ارسلها البلعزي حاكم مصراته .. يبدو انها ستغير المسار .. فقد طلب مقابلة ابينا عند غرب ارض الزعفران .. وعرض عليه التحالف معا .. في سابقة غير معهودة .. ركبنا اليه في الموعد والمكان .. يرافقنا مائتي فارس من ابناء عمومتنا .
كان المريض ( ) هو الاخر ، ونسيبه مصطفى ابن الاغا عصمان لدغم ، قد عرضا على والدي التحالف معا .. في مواجهة مصراته الذين اختاروا صف الترك .. لكن ما حدث لاحقا .. ينبئ انهم بيتوا لنا الخداع .. لقد اكرمناهم غاية الكرم .. والدي لم يكن متوجسا من التحالف معهم .. ركبنا نحن في مائتي فارس ، وركب المريض ونسيبه مصطفى ابن الاغا عصمان ، في ثلاثمائة فارس .. وعندما بلغنا المكان .. هالنا عدد العساكر .. وانتشارهم ..عند ذلك اتى ابن المريض الحاج عبدالهادي وقال لابينا ، ان اباه المريض ومصطفى الاغا ينون له على الخديعة ، فلما سمعت منه هذا القول ، توجهت الى عمنا سيف النصر ، وأخبرته ، قال لي : الحاج عبدالهادي كاذب ، وما هو إلا خائف من القتل ، واستشار عمنا والدي ، فقال هو الاخر : اعرف الحاج عبدالهادي كاذب جبان ، إلا اذا ارتم تصديقه لتبرروا هرب تتوقون اليه ، وعنده سنصبح ” مضحكة ” للناس .. ومسخرة عند اشرافها وأراذلها .
اقتربنا اكثر منهم .. شعرنا الخيانة تنهشنا .. كنا نظن ان المريض وقومه الثلاثمائة فارس معنا وسندا لنا .. لكنهم خذلونا في اللحظة الفارقة .. ( ) الحاج عبدالله .. كان صادقا في كلامه .. لقد اخطأنا التقدير .. جعلونا في المركز .. وانهالوا علينا من كل جانب .. تكلم البارود .. البلعزي وجند من امامنا .. والمريض وحلفه من خلفنا .. واشتعل وطيس الحرب .. ليوم كامل .. دحرناهم .. لكنهم ظلوا محاصرين لنا .. قلت لعمي سيف النصر .. اذا لم نهرب الليلة فستتكالب علينا اقوام العسكر من مصراته وطرابلس .. وسنقتل هنا بدم بارد .. التفت نحوي .. وقال لي : ” اعرفك .. اردت الهروب من اول يوم ، تربيت وسط الوصفان فصرت دليلا .. كأنك لست ابن اخي ” .. قلت له : يا عمي .. الهروب ليس صنعتي ، ولا من صنيع احد من نسلنا ، ولكني خمنت ان الهروب افضل لنا ، الخطر يحيق بنا من كل جانب ، ولعل الهرب افضل لنا من الندامة قبل فوات الاوآن ، ولو ان عددنا يوازي عددهم .. او يقترب منه .. لكان ممكنا الصمود والمواجهة .. ولا تنسى اننا صرنا ضحية الخيانة .
قال عمي .. اذا تكاثروا علينا .. اتركوا الخيل والبسوا الارض .. نصمد .. ونضرب بشدة .. غدا او بعد غد .. ننتظر دعم اخينا الساعدي القادم الينا بالمؤن .. ولما زاد زحفهم نحونا .. لجأنا الى جبل طيني .. يقال له ” قارة البغلة ” .. وتخندقنا به .. والتفت بنا العساكر من كل جانب .. تمكنا من صدهم ووقفهم اليوم الاول ، والثاني ، والثالث ، لكن زواملنا بدأت تموت من العطش مع طول الحصار .. كنت الى جوار عمي وخلفنا احد غلماننا يحشو لنا البارود في المكحلة .. يعمر لنا السلاح .. كان كل من عبر امامنا .. وتطاله بنادقتنا .. قتلناه .. وكلما تكلم البارود .. ان كان من عندي .. او ان عمي صوب نحو هدف .. مات منهم رجل .. وسقط عن جواده .
اليوم السابع ، تحاملوا علينا اكثر ، ماتت رجالنا وخيلنا ، اصابت عمي سيف رصاصة نهشت جانبه الايسر ، لكن رصاصة اخرى قاصمة قصدت رأسه .. رفع يده يتلمس الاصابه .. وشعر انها النهاية .. قال لي : تعال يا ابن اخي اصافحك عن قرب ، انا وأنت سنفترق هذا اليوم .. تعال اودعك .. قلت له : تسلم عمي .. يا قرة عيني .. اتيت اليه .. قبلني بحرارة .. ضمني الى صدره ، قبل جبيني ، وقال : اهرب يا ابن اخي ، فإني انا قد يلغت اجلي ، وسقط على الارض ، التفت الى الغلمان .. فوجدهم هربوا .. واقترب مني عسكري .. اراد ان يدخل لجة حصني .. صوبت القربيله على صدره .. ضغطت الزناد .. قتلته .. سقط على الارض .. وتركت دوحتي وحصني .. خرجت .. وخرج معي عبدا اسمه زايد .. ازفت الازفة واستحكمت حلقاتها .. قبضوا على ابي .. وإخوتي .. ومن اولاد عمي .. وما نجا من اعمامي .. سوى غيث الطفل الصغير .. قتلوا والدي ، واسروا اخوتي .. ثم قتلوهم بالليل خنقا بالحبل .. ونجوت من قبضتهم في الرمق الاخير ، سرت هائما على وجهي .. ارض تأخذني وأخرى تردني .. الى ان بلغت نجع المغاربة ، كنت جريح في الكاحل ، عدوت المسافات الطويلة بالليل ، وما ان حل الليل .. رأيت ثمانون من خيالة البلعزي قادمون نحوي .. وصارت بيننا حرب شديد تلك الليلة ، قتلنا منهم اربعة رجال ، وقتلوا الغلام الذي كان معي ، مات الغلام ، وصاروا قريبين مني ، اتى احدهم يمتطي فرس حمراء من جياد الخيل حتى وصلني ، وضربني بالقاربيله .. فسلمني الله منه .. التفت نحوه ، صوبت وأصبته .. قتل في الحال ، كانت فرصتي للهرب .. امتطيت فرسه وحملت على القوم .. هربوا مني .. ولاحقوني .. ظلوا على اثري حتى منتصف الليل .. وعندما صرت بعيدا عنهم .. تركت الفرس ، وصرت امشى بين اشجار القندول المنتشرة .. لحقني العطش ، نظرت شيء ما اعلى التبة ، قصدت اليه فوجدته نادرة من القمح ، اعلاها رجل نائم ، جلست بالجوار ، فلم يستفيق .. لكزته ، استفاق هلعا عندما رأى سلاحي .. قال : ماذا تريد سيدي ؟ ، قلت له : اضناني العطش اعطني ماء .. هرع الى بيت قريب من بيوت العرب الخفر .. احضر لي لبن غنم مخلوط بالماء ، شربت وانتشيت منه كثيرا .. وعندما هممت بالرحيل .. تثاقلت ركبتاي .. فلم اقوى على النهوض .. واصابتني الحمة .. عدت مكاني .. احس الرجل بما انا فيه .. احضر مرقوم من الزريبة .. غطاني به .. تمددت ونمت .. حتى شق الفجر عين الصباح .. زالت الحمة .. ولم يبخل علينا الرجل بالطعام .. لكني عندما عزمت على الرحيل .. لم اقوى على المشي .. جلست الى الارض وبكيت بكاءا شديدا .. قال لي ذلك الرجل ، ما يبكيك يا سيدي ؟ ، ولا بكى الله لي عين ، فقلت له : ابكي نفسي بنفسي ، ولا يبكي عليّ حبيب ، وهذا نهار البكاء عليّ ، فقال لي ، اني اراك يا سيدي ابن ملوك ، ولكن اخبرني بأمرك وعليك الامان ؟ ، فإني ارشدك لما فيه الخير ، وأمنحك ان قدرت ما بوسعي فعله ، فأخبرته بأمري وما جرى علينا ، فقال : سبحان المعز ، وسبحان المذل . فقلت له هذا كلام لا يسمن ولا يغني من شيء ، هل لديك موضع اختبئ فيه حتى يندمل جرحي .. وسأمنحك المال .. قال لي صبرا .. استشير والدتي ، برهة زمن وقد عاد برفقة والدته .. قالت ، مرحبا بك يا ايها الرجل ابن الرجل المليح ، واني يا سيدي لما اخبرني ابني عنك ، خافني الحال ، ولكن اذا كنت ستعطينا شيء من الدراهم ، فإننا نخبئك عندنا حتى يندمل جرحك .. ونودعك الى حيث تبغي .. فقدمت لها عشرون بندقي من الذهب ، اعتدنا ان نبقي في جعبتنا دائما خمسمائة بندقي .. نلفها بالحزام .. لعازة الزمان .
قال الشاعر :
ان الدراهم في المواطن كلها .. تكسي الرجال هيبة وجمالا
وهي لسان لمن ارد فصاحة .. وهي السيوف لمن اراد قتالا .
فرحمة الله على صاحب هذا القول
اخذت تلك الدراهم ، وقالت لي : كثر الله خيرك .. قلت لها : اذا اشفاني الله .. وسترني .. سأكون محسنا معكم لحظة الرحيل .. اخذتني تلك المرأة الى زريبة لها .. خبأتني هناك .. وصارت تسخن السمن .. وتدلك الجروح .. تعافيت .. تواردت الاخبار .. عمي المنتظر قدومه والتموين .. جاء بعدنا بيومين .. وقتله عساكر الاتراك .. ابي وعمي وعمي .. علقت رؤوسهم على جدار قلعة طرابلس .. وسط تهليل واعراس .. وارسلوها الى اسطنبول .. وقتلوا الترك المريض وابن الاغا عصمان مصطفى ، اولئك الذين خدعونا .. قتلوا بيد ربيبهم الترك ، واما المرأة التي فعلت بنا خير كثير ، ما ان هممت بالرحيل .. كتبت الى ابنها جوابا بخط يدي .. عبرت فيه عن امتناني له .. بما قدم لي .. وختمته بختم العائلة .. قلت له .. احتفظ بها .. عسى ان تأتي بك الاقدار نحو ديارنا .. اهلا بك .. ولن ننسى لك جميل ما فعلت .. والحقت الجواب بعشرين بندقي اخرى .. وغادرت ليلا .
لم يتركني بكرمه .. قدم لي شيء من البسيسة .. وشيء من البارود والرصاص .. وقربة ماء .. قال لي لحظة الرحيل : هل ترغب ان نشتري لك جمل ؟ ، قلت له : ليس بي حاجة لجمل ، اريد الهرب من رقابة الناس .. ابقيته وامه بالسلامة .. وسايرني مشيا حتى منتصف الليل .. وقبل طاوع الفجر .. عاد على عقبية .. وتابعت سفري .