قراءة في واقع الانتفاضات بالاستناد على الماضي البعيد والقريب وحاضر شرق وجنوب المتوسط (الحالة الليبية كمثال)

قراءة في واقع الانتفاضات بالاستناد على الماضي البعيد والقريب وحاضر شرق وجنوب المتوسط (الحالة الليبية كمثال)

محمد عثمونة

هذا الحضور الدولي ببيادقه الإقليمية والمحلية , الذي ظهر بالفضاء الجغرافي لجنوب وشرق المتوسط , بعد انتفاضات 2011 م . جاء إلى الحضور بالمشهد الليبي بعدما اصطدمت وتعثرت به الانتفاضات وبما تحمله هذه من مطالب خدمية تنموية محلّية , تحتاجها حياة الناس كي تفوز بحد مقبول لحياة كريمة تليق بآدمية إنسان هذا العصر . كل هذا سيأتي ويتحقق كما في اعتقاد وتصور الانتفاضات عن طريق العمل والاجتهاد لخلق بيئة مناسبة تأسيس لبنى خدمية في الصحة في التعليم في المواصلات والاتصالات إلخ . يتوازى هذا التوجه , مع تأسيس آخر يشتغل على بنى تحتية تنموية في الزراعة الصناعة الاستثمار إلخ . هذا التوجه في مطالبه الخدمية التنموية للانتفاضات , هو لا غيره من استثار واستنفر هذه المنظومة الوظيفية العميقة المُتدثرة بأثواب الثورة المضادة . والابنة الطبيعية الشرعية لِما يُعرف بمشروع سايس- بيكو الذي جاء إلى هذا الفضاء الإقليمي على يد مهندسه وعرّابه الإنجليزية اثر ترتيبات وتوافقات دولية مع زمن ما بين الحربين الأولى والثانية . بغرض الإبقاء على يد الوصاية الدولية على هذه الجغرافيا عقب رحيل الإدارة الاستعمارية بصيغتها المباشرة , وتثبيت الوصاية والحفاظ عليها من خلال زرع منظومة وظيفية تتولى بذراعها الأمني الباطش المحافظة على أمن واستقرار دائم بالإقليم .

والمفارقة الملفتة في هذا أن ذلك ما حدث تماما مع فضاء القارة الأوروبية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مع الفارق في الغايات والأهداف , إذ انتهت الترتيبات الدولية وفي الحالة الأوروبية حينها إلى الذهاب نحو إعادة إعمار القارة من خلال مشروع (مارشال) الأمريكي . فنهضت القارة الأوروبية من تحت أنقاض الحرب ومآسيها وانخرطت في بناء حياة كريمة , أضافت القارة من خلالها للحياة الكثير ودفعت بها قفزات إيجابية هامة إلى الأمام. والشواهد على ذلك لا تُعد , ربما نستطيع حصرها في عدد المرات التي كُرم فيها أبناء القارة من طرف المؤسسة المشرفة على منح جائزة نوبل في مجالاتها العديدة من طب وكيمياء وفيزياء وأدب وغيرها . كنت أحاول القول إن الترتيبات والتوافقات الدولية التي جاءت في زمن مابين الحربين إلى إقليم شرق وجنوب المتوسط , لتؤسس لأمن واستقرار يعتمد على ذراع أمنية باطشة. لم تكن غايته القريبة والبعيدة المساعدة في دفع عجلة الإنماء والإعمار – كما في الحالة الأوروبية – بل جاء للمحافظة على الأمن والاستقرار بما يحفظ استمرار وديمومة كل ما يُفيد وينفع يد الوصاية الدولية على هذا الفضاء الإقليمي . وبهذا ظهرت على هامش اعتماد الأمن والاستقرار التعسفي بالإقليم , أعراض جانبية ضارة , ومنها خلقْ حواضن وبيئة اجتماعية موازية تحمل جميع المؤهلات والمقومات المناسبة لنشأة وترعرع واحتضان كل ما هو راديكالي متطرف مُتفحّش في هذا الفضاء الإقليمي الواسع . الذي سيطال بضرره فيما بعد محيطه المحلي القريب والإقليمي الدولي البعيدين .

والشواهد كثيرة على ذلك بدءا من أطفال الإيدز ببنغازي ولوكربي وتوابعها وتبعاتها مرورا باستدراج الأسطول الأمريكي إلى البحر المتوسط استنادا على معلومات كاذبة بغرض تدمير دولة العراق وشعبها وليس انتهاء بتفجير برجي التجارة العالمية بواشنطن . فما دفع هذه المنظومة الوظيفية العميقة التي تغطي بمفرداتها فضاء شرق المتوسط وجنوبه للاستنفار والوقوف في وجه الانتفاضات يرجع في أحد أسبابه إلى شعور هذه المنظومة العميقة ومعرفتها اليقينية الجازمة , بأنه فيما لو تمكنت هذه الانتفاضات من بلورة قيادات محلية , تتبنى وتجتهد وتعمل على تفريغ , مطالبها الخدمية التنموية في أولويات تحتويها خريطة طريق , ستنتهي بهذه الانتفاضات دون شك إلى طرح أمن واستقرار بديل مواز يتكئ على مشروع خدمي إنمائي يعمل على تحقيق حد مقبول من حياة سلسة كريمة لكل الناس . وفي هذا تأسيس لأمن واستقرار بديل مواز بعيدا عن تعسفية الإكراه مقرون بالإنماء والنهوض مع توفير حياة سلسة كريمة للناس . ضف إلى ذلك أن هذا الأمن والاستقرار الموازي البديل بعيد بما فيه الكفاية عن اقترانه بأي أعراض جانبية ضارة قد تطال حاضنته المحلية أو محيطه الإقليمي القريب أو الدولي البعيد . وهذا المُحفز كان فيه الدافع الكافي لتمكّن هذه المنظومة العميقة ومن ورائها عرّابها العتيد – وفي الحالة الليبية – من احتواء الانتفاضة وتطويعها من خلال جرها إلى مؤتمر الصخيرات ووأدها هناك . ومن ثم شرعت هذه المنظومة في إعادة إنتاج نفسها من خلال تقاسم المناصب السيادية فيما بينها . وذهبت إلى صياغة المفاهيم وفق ما يتوافق مع إعادة إنتاج ذاتها في التوافق والعزل السياسي و المصالحة وجبر الضرر . الدستور . إلخ . وقد احتلت هذه المنظومة وبدعم دولي مخرجات الصخيرات وملحقاته المشهد الليبي برمته . السياسي. الإعلامي . المالي . المليشياوي بمسمياته العديدة إلخ . إذا ما استثنينا حضور مؤسسة الجيش التقليدية التي انبعثت – كالفينيق – إلى الوجود , تلبية لنداءات الاستغاثة والنجدة التي جاءت من الحواضن الاجتماعية ونخب شرق البلاد .

مطالبة الجيش بالوقوف في وجه حالة الانفلات الأمني الذي عبث بحياة الناس من خلال حالات الخطف والاغتيالات والتفجير بالمفخخات ونشر الموت والخوف في كل الأرجاء . وكل هذا العبث جاء بفعل أيادٍ إرهابية كما ثبت فيما بعد , فقد شاهدنا صوتا وصورة أحد قادة هؤلاء وهو ُيرحل إلى مصر وقد حُوكم هناك . فمؤسسة الجيش التقليدية ربما هي الجسم الوحيد الذي جاء من خارج مؤتمر الصخيرات ومخرجاته . وما الباقي وهو الغالب إلا الصخيرات وصدى ملحقاته وتوابعه . كنت أحاول من كل ما تقدم الوصول إلى القول . إن التفاهمات الدولية التي تلوح في الأفق الإقليمي والدولي إن كانت تسعى صدقا إلى وضع ترتيبات دولية بهدف تعزيز الأمن والاستقرار بالإقليم. عليها ألا تعتمد لتحقيق عليها ألا تعتمد لتحقيق ذلك على النفخ في القبضة الأمنية التعسفية كما كان سائدا على مدار قرن من الزمان . فقد كانت نتائج ذلك التوجه التعسفي للوصول للأمن والاستقرار وخيمة . ظهر ذلك في أعراض جانبية مميتة على هامش تعاطي وتفاعل القبضة الأمنية الثقيلة القامعة مع وعائها الاجتماعي, فخلقت بذلك بيئة اجتماعية موازية أنبتت تيارات راديكالية متطرفة عبثت بالمحلي والإقليمي القريب وطالت حتى الدولي البعيد . فالتوجّه نحو إعادة إنتاج ما كان سائدا هو ليس غير خلق فرصة وبيئة جديدة لإنتاج نماذج على شاكلة الزرقاوي , وأبوسياف ومموّلوه , وبن لادن والظواهري , والبغدادي ودولته العتيدة . والخيار المتاح لتعميم أمن واستقرار خالٍ من الأعراض الجانبية الضارة التي قد تظهر على هوامشه , تكمن في اعتماد الطرح البديل للأمن والاستقرار الموازي المُتكئ على البُعد الخدمي التنموي الذي سينتهي إلى التأسيس لحياة بها قدر مقبول للعيش في كنف ظروف تليق بآدمية الإنسان الذي كرّمه العلي القدير على الكثير مما خلق . وهذا في تقديري لا يتم وفي الحالة الليبية إلا بالذهاب والتوجه نحو البُعد الوطني وفيمن يُمثله , واعتماده كشريك محلي للهيئة الأممية والدول النافدة المهتمة بإعادة الترتيبات الدولية بفضاء شرق المتوسط وجنوبه واعتباره مساندا وطنيا أساسيا وهاما خلال هذه المرحلة الاستثنائية . وهذا الشريك في اعتقادي وكما عجمته الأحداث وبينت التزامه الوطني , ليس غير مؤسسة الجيش التقليدية . فالصخيرات ومخرجاتها وتوابعها وملحقاتها تبين ومن خلال المعيشة , بأنها ليست غير حاضنة لهذا العبث الذي عصف بالبلاد والإقليم وحوض المتوسط على مدار العشرية الماضية.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :