عمر نفيسي
شعرية الذات وتجليات الجمال في شعر الزجال حفيظ اللمتوني.
الجزء الأول
***********
قصيدة لحفيظ اللمتوني من ديوان “شي …”
شكون بحالي
نلوي الليل
فوق راسي عمامه
وندير فكاري
نجوم تلالي
نلبس بياض
القمرة
فوقيه
نحزمها ب هبالي
فيها نعوم
وعند اللامه
نسوك لغتي
نحركش كلمتي
تزيان حروفي
اللي طالعه من القلب
بلا رعدة
مجرده من خوفي
نكحل عينيها
لا يعميها
بياض الورقة
نغسلها ب ما لفهامه
تتسامى
هي ها كدا زجالي
مره مره
لا زمني نتسارى فيها
نتساوى بها
ندير يدي ف يديها
فين ما بغات نديها
نتمشاو على الشط
نفرح بها ننشط
وفين ما بغات لقصيده
نحط رحالي
تعرفني على ناس
تشربني كاس
نفاجي عليها
تفاجي علي
شكون بحالي
انا ولقصيده عشاق
ما نقدرو على لفراق
نسكن معاها ف الورقة
لكبيده
روح
سكانه معايا ف الجسده
ك نبغي
نخليها
تقشر خاطري
والى عطشت
روحي نقطرها فيها
هي لي رميله
وانا بن غرله
صياد لمعاني
ما فيها باس
الى موت على كلمتي
باش نحيى تاني
لكل قلعة مدخل ولكل مدخل بوابة ولكل بوابة كلمة سر وكلمة سر بوابة مدخل قلعة القصيدة تكون مضمرة في عنوانها. ولكي نلج حدود أسوار قلعة قصيدة الشاعر الزجال حفيظ اللمتوني المعروف في الأوساط الشعرية بسلطان الما والتي وسمها ب شكون بحالي وهي ضمن مجموعة كناش وسمه الشاعر ب “شي …” علينا أن نفكك شفرات عنوانها لأنه مفتاح تأويلي. وهو مركب من لفظتين أنتجتا سؤالا مرتبطا بأنا الذات الشاعرة أو ما يصطلح عليه بالانا الشعرية … وهنا تنبعث رائحة الإغواء والإيحاء من العنوان الذي هو مبتدأ النص ومبتدأ التحليل والتأويل. هذه الرائحة التي تشي بأن النص يبرز حقيقة الشاعر من خلال سؤال الذات المنبني على نهوض إمكانية التفرد الشعري لدى الأنا الشعرية. لتمنحنا سلطة النقد في أن ندرج النص ضمن خطاب سؤال الذات.
ونعود لعنوان النص المركب من لفظتين اللتان أنبنى على تركيبهما سؤال الذات ” شكون بحالي” /شكون …؟ -من…؟ / بحالي… مثلي /
شكون بحالي: تركيب اللفظتين يحيل إلى قلق في السؤال أي قلق السؤال أو سؤال القلق وقد نجد فيه تارة تباهي وتارة سؤال الوجود الذاتي … شكون بحالي …؟ مغمورة بالعزة والتباهي والترميز للقدرة /وشكون بحالي مثقلة بسؤال الوجود وعلاقة ضرورية بالوعي والتفكير
وخيط رفيع بينهما يتجلى في الاحتفاء بالذات وعواطفها وهواجسها.
وسلطان الما الشاعر الزجال الماكر هاهنا يورط الاستقراءات والاستنباطات ويفر متقدما ومخلفا آليات النقد تركض وراءه عندما افتتح قصيدته بسؤال وقلت افتتح لأنه وضع السؤال على عتبة النص محاولا الانفجار منذ البداية وشد الانتباه وتوجيه النص وفق ما يقتضيه السؤال من أحوال شعرية وأسلوبية. وقيمة السؤال تظهر من أداة الاستفهام التي وظفها الشاعر وهي (شكون…؟) وهذه الأداة الاستفهامية لها قيمة شعرية زجلية ارتكزت عليها كبريات القصائد الزجلية التي اختلقت ضجة في أوساط الشعراء والنقاد في زمن التأسيس الشعري الزجلي ونخص بالذكر والتذكر ديوان: “شكون طرز الما”…؟ للشاعر الزجال الرائد أحمد لمسييح … الذي يتقاسم معه الشاعر الزجال الطبيعة المائية. فلقب الشاعر /سلطان الما ودلالة الألفاظ المتصلة بالماء تجدها واضحة ومميزة وأساسية في زجل حفيظ اللمتوني حيث نجد في النص الذي بين أيدينا ستة ألفاظ متصلة بالماء …نعوم / نغسلها / الشط / تشربني / اعطشت / نقطرها / ما لفهامة/ … كما للماء دلالات عميقة في شعر حفيظ اللمتوني تضفي على القصيدة الحديثة ملامح تجديدية تحيلك لاقتحام جنات النشوة والانتشاء كمتلقي وهي متعة ومتاع للشاعر حتى إنه يفرض سلطته وحرصه وحراسته على ملوية في العديد من قصائده وملوية هي نهر دائم الجريان في إقليم الشاعر. وهذا الحضور اللافت للماء في شعر حفيظ اللمتوني يحيل المتلقي على خصوبة الحياة وحياة الخصوبة.
نلوي الليل
فوق راسي عمامه
وندير فكاري
نجوم تلالي
نلبس بياض
القمرة
فوقيه
نحزمها ب هبالي
حفيظ اللمتوني الشاعر المرتبط طبيعيا بأحد عناصر الطبيعة الذي يمنح الحياة وهو الماء / يجوب أقطار الكون عبر شعره ليعيد تشكيلته شعريا فيطوي الليل ويلويه حول رأسه كالعمامة ويدير إدارة أفكاره لتحقيق نظام النجوم المتلألئة ويجرد القمر من بياضه ليرتديه ك قماش فوقي وفي ختام احتفائه بزينة ذاته عبر كسوتها بأساسيا وجود عناصر طبيعية. يوثقها بجنونه /نحزمها بهبالي/ وأي جنون إنه جنون الشاعر الذي يبقى دائما مختزلا في شعره عندما يرى أن العالم الذي يتخيله أكثر صدقا وواقعية من العالم الذي يعيشه …
فهذا المقطع الشعري يعبر عن ترتيب أفكار الشاعر حفيظ حسب ما يراه واقعيا من زاوية هبله هذا الهبل الذي لطالما منحوه شعراء الزجل لقبا لما يكتبون من جنون … ونستحضر هنا بعض أشعار الزجالين التي تفيد في هذا المضمار
أحمد لمسييح
**********
ماشي وحدي عاشق
ماشي وحدي معشوق
لكن…
أنا وحدي اهبيل
يكفيني ف العشق
نكون ف حماقي
مالي مثيل
عمر نفيسي
*********
وزاد هبالي نواح
وسرح وراح ف بطاح الانزياح
ادريس بلعطار
************
خلي ليا لهبال
راه لهبال ارحم
هكذا ود الشاعر الزجال حفيظ اللمتوني الگرسيفي أن يظهر للمتلقي أن تعامله مع تلك العناصر الطبيعية المذكورة في مقطع قصيدته كلها هو تعامل تقني شعري لأن هبله الشعري هو محرك إلهامه والصورة التي جمع فيها هذه العناصر وناور بآلياته الشعرية ليصل بها إلى هذه الدهشة قد أتاحها له هذا الهبل الشعري الذي بين يديه خيوط التحكم فيه.
هذا من جهة. أما من جهة تقنية الكتابة الشعرية ف الشاعر الزجال سلطان الما ظل لا يشبه أحدا في بنائه لصوره الشعرية إذ نقول إنه واكب التجديد وظلت صوره الشعرية كذلك تعكس بدورها أفكاره ونظرته إلى الحياة والإنسان والكون واعتمد في بناءها على الدهشة والخيال الخصب الذي يهيئ المتلقي لقراءات متعددة ومفتوحة بعد أن يعنف تلقيه وهو يترصد تصويرها ومقاصدها. فالصورة الشعرية التي بين أيدينا وهي الزاخرة بالإنزياحات تجعل المتلقي منبهرا وهو يترصد تفاصيلها البنائية
نلوي الليل
فوق راسي عمامه
وندير فكاري
نجوم تلالي
نلبس بياض
القمرة
فوقيه
نحزمها ب هبالي
الفقرة او المقطع الشعري يشكل صور شعرية مفردة … نلوي الليل فوق راسي عمامة/وندير فكاري نجوم تلالي/ نلبس بياض القمرة فوقية/ نحزمها ب هبالي. وكل صورة من هاته الصور تجعل المتلقي في عوالم من المتاهات يدخلها فيستعصي عليه الخروج وهنا يتعرض الى عنف في التلقي …
هذا الشاعر يقحم المتلقي في عوالمه الصعبة التضاريس ويغلق عليه أبواب المتعة بلا شفقة.
وعند تركيبه للصور المفردة لتهييئ نفسه للولوج إلى الصورة المركبة يجد نفسه متأثرا بالدوران نتيجة التيه داخل المتاهة القبلية . وهكذا تستمر متعة التيه لحين استكمال القراءة والوصول إلى الصورة الكلية التي تشمل كل القصيدة.
فيها نعوم
وعند اللامه
نسوك لغتي
نحركش كلمتي
تزيان حروفي
لي طالعة من القلب
بلا رعدة
مجرده من خوفي
اللغة لدى حفيظ اللمتوني لغة شعرية تمنح النص حق الانتماء لمملكة الشعر…لأنها منتقاة بعناية وفي هذا المقطع يُنَظِّر الشاعر لجودة لغته / نسوك لغتي / نحرگس كلمتي /تزيان حروفي … فالاختيار بعناية لكلمات لغة الشاعر تتجلى في إخضاع اللغة لحصص الزينة /وتزيان حروفي /حيث أن الحروف تُكَوِّنُ الكلمة والكلمات تكون اللغة …
لي طالعة من القلب
بلا رعدة
مجردة من خوفي
نعم لقد صدق الشاعر وهو يصف لغته المنبعثة من القلب في إيحاء لموقع القلب أنه في أعماق دواخله . واللغة هي وسيلة للغوص في أعماق النفس الإنسانية للكشف عما يخالج نفسية الشاعر من أحاسيس مختلفة. حيث ترك لها قيمتها الإبداعية المرتبطة بالإلهام عندما أزاح عنها قدسية الوحي التي قد يحيلنا السطر / بلا رعدة / مجرد من خوفي/ إلى الحالة النفسية التي تنتاب المستقبلين للوحي من أنبياء الله.
قد أكون خافقا في هذا الاستقراء وقد يكون الشاعر الزجال يود في استعماله للفظة الخوف والرعدة أن يشير الى العمق الذي طلعت منه كلماته حيث يكمن في آخر موضع من غيابات ذاته متحديا لخوفه.
نكحل عينيها
لا يعميها
بياض الورقة
نغسلها ب ما لفهامه
تتسامى
هي ها كدا زجالي
مره مره
لا زمني نتسارى فيها
نتساوى بها
القيمة الإبداعية لا يمنحها أحد للشاعر إلا هو …ف الشاعر عندما يؤمن ويتق في إبداعه يمنحه قيمة مضافة.
والشاعر الزجال حفيظ الگرسيفي لا ينتظر من النقد أن يعلق النياشين لإبداعه فقد أبدع تركيبة تجويد لإبداعه حيث بدأ باللغة وقام بتزيينها لتكون مؤهلة للإبداع وها هو يمارس حراسته على الإبداع نفسه كي يجوده فبدأ بتكحيل عين القصيدة.
نكحل عينيها
لا يعميها
بياض الورقة
وفعل التكحيل هنا يفيد التهذيب والاستعداد والخوف من الانزلاق في أي منزلق لا يليق بقصيدة شاعر زجال من طينة حفيظ الذي لا يرضى لقصيدته أن تخلق عمياء.
نغسلها بما الفهامة.
والغسل المفروض على جنس القصيدة يسمى التشديب الذي يزيل الأوساخ الأسلوبية منها حتى تكون جاهزة للتقديم بين يدي القراء
تتسامى
هي ها كدا زجالي
هكذا هي أشعار حفيظ عندما تصبح ذات قيمة إبداعية عالية / هي ها كدا زجالي /. لاحظوا معي المراحل التي قطع الشاعر الزجال حفيظ بقصيدته لتصل إلى المتلقي وهو مطمئن النفس واثقا من إبداعه ومن قيمته … ولاحظوا كذلك هذا السفر الذي أجبرنا على مرافقته الشاعر الزجال سلطان الماء ألا يشبه سفر الماء في تدفقه وإن قطعه لتضاريس وعرة وهو يصارع آليات الكتابة بدرجة وعي عالية من أجل كتابة نص موثوق يشبهه في لمعان سمرته وخفة ظله ورقراق مائه.