بقلم :: ابوبكر عبد الرحمن
في الحروب الأهلية التي حمل فيها الليبيون، السلاح علي بعض، وإزهاق أرواح بعضهم البعض، كانت الضحيٌة الأولى التي تسقط أرضاً، شاب، ملطخاً بالوحل، وبزهرة كان يتوسط قلبها ثقب، أو أكثر، زهرة ذات لون أحمر قاني، تكبرفيه شيئاً فشيئاً، في جسده وتلطخ، هي أيضاً. ملابسه التي كان يرتديها، قبل مقتله، وتلطخ الأرض نفسها، التي تقتل دوماً شبابها أولاً، ومن ثم على الأرجح، تقتلهم أخيراَ. كانوا ضحايا في كل شيء على هذه الأرض الجزاف الليبية. منذ ولادتهم فيها، وهم يكبرون شيئاً فشيئاً فيها، إلى تلك الساعة التي تثقب رصاصة فيها وتستقر في مقتل، مكان ما في أجسامهم وتغادرنا أرواحهم من غير ما رجوع، وعلى حين غفلة منهم، وغفلة هي الأخرى منا، تشعرنا كأننا نحن المذنبون عن فقدانهم، وتترك فينا جرحاً يمشي على القلب، بقدميه الحافيتين، ويصدع شيئاً فشيئاً، إلى أن نختنق، أولئك الأشخاص الأبرياء الذين لم يحملوا يوماً دفاعاً عن أرواحهم، سلاحاً أو مقصاً للأظافر، كانوا يعيشون بالقرب من منزلنا، كانا هذين الصديقين أكثر من أخوين، وكنت أعتبر هذه الصداقة أكبر من الحكومات، لم أرهما في حياتي يعبسان تحت ظرف ما، دوما ما كانا يبتسمان ويضحكان، كنا أكثر جيرانا، دائماً ما نجلس سوياً حينما كان الشيطان يخلط الحابل بالنابل أولئك الذين يدٌعون الحريٌة من كلا الطرفين، من الذين كانت تسوقهم ظفائر الثورجية، كناٌ نتسامر معاً طويلاً في أحاديثنا يوم كانا حيان يرزقان، في مجموعة كبيرة تضم جيران الجوار وبعض المقربين والمعارف وأشخاص آخرين، كنت كلما ضاقت نفسي وحزنت أذهب إليهما دائما لمآنستي، فنجلس بجوار العمارة المقابلة لعمارتنا، تحت شقة العجوز ” شويخا أبوعريبة ” “عمة يوسف أبوعريبة، أمام الملعب الرباعيٌ ذو الشكل المستطيل، الذي كان مرآباً لركن السيارات، كان هذا الملعب يأخذ حيٌزاً من حياتنا اليومية، كنا نلتقي في العشيٌة ونمارس رياضة كرة القدم حتى أذان المغرب سوية، والجميع كان يشترك في اللعب حتى كبار السن كانوا يمارسونها دوماً معنا، كنت أتغٌيب في بعض المباريات بسبب دراستي في المعهد أو مركز اللغات، أو بسبب المطالعة للكتب والدواوين و الجرائد، وفي مساء يوم الأربعاء، الذي يعتبره العرب أسوأ أيامهم، التقط الفقيدان آخر صورة ذلك اليوم الذي لم يحسباه، آخر أيامهما، كانت الصورة تظهر خمسة شباب، كان الشاب حمد اجفيلة يلتفت ويبتسم لكاميرا الجالكسي، ويظهر على يمينه الفقيد يوسف أبوعريبة التي يظهر فيها مبتسماً و هو يضع الملعقة في فمه بصورة عفوية، وقبالته الشاب سليمان محمد يرفع ملعقته لتناول “الخبزة”، كان الفقيد يونس عبدالكريم يجلس بجانبه واضعاً الطربوش التونسي الأسود ويحني رأسه إلى الأسفل خجلاً، “لو أنكم التقطتم صورة لوجهي” يقول يونس بكوميديا كعادته “فإن الكاميرا الهاتفية سوف تعطل”، وكان صالح عبدالله يعطي ظهره حينما التقِطت الصورة، وانقضى ذلك اليوم وهم وأهلهم، وككل الليبيين، لا يشغلهم شيء سوى قضايا المدينة التي أعلنوا عنها أنها منكوبة.
استيقظت صباح الخميس على أصوات الرصاص، كعادتي، ذهبت للدراسة، وجدت الأصدقاء يتحدثون في الرواق، كانت المحاضرة ثلاث ساعات، أدرت محرك السيارة، وفي الطريق رن الهاتف لأسمع خبر الفاجعة،” لقد قتل الأوغاد أبوسعدة فور خروجنا عندما كان يسلك أحد الطرق التي كانت تحت سيطرة قبيلة تحمل أيديولوجيا عكس قبيلته، عندما كان عائداً إلى البيت، وقد سمعت أنهم سوف يقتلون كل شخص ينتمي إلى هذه القبيلة.. كل خميس سليماني!”. وصلت للبيت بخطى وئيدة متثاقلاً من هول ماسمعت، كنت قد تحدثت إليه قبل ساعات من الآن، وكنٌا نمزح سوية معاً الآن، هكذا وبكل بساطة ترك الحياة بمجرد أنه ينتمي إلى قبيلة، كان هذا مقياس المدينة، وإن أبدى الكثير رفضاً، أو نفاقاً، فإن هذا ما سوف يحصل لك جرٌاء نزاع بين قبيلة وأخرى، كنت على علم بمن قتلوه، فالقبيلتان تقفان ضد بعضهما، كاللغة الفرنسية واللغة الألمانية، التي يصعب ترجمة إحداهما للأخرى، وبغض النظرعن رأيك الذي تبديه، سوف تتم شيطنتك، فالحقيقة واضحة. وبأبلغ تجلياتها،
نزلت وأنا أفكر فيما حدث قبل ساعات، عندما رأيت الشباب الخمس جالسين تحت نافذة العجوز” شويخا” يستمتعون بحرارة الشمس الشتائية، وقفت، وعلى غير عادتي، في صمت، فيما هم يتجادلون مع بعضهم، كانت مجادلات كوميدية بين حمد أجفيلة ويونس، ” سوف أترككم وأذهب إلى روسيا يايونس، سوف ترى ذلك، مللت منكم ياليبيين وكل صباح أستيقظ على صوت الذخيرة ” يرد يونس عليه قائلاً” لن تذهب إلى أي مكان صدقني، أنت لم تر في حياتك حتى الشويرف أصلاً، ولن تذهب إلاٌ وقد قضمت الإطارات ياهذا.و ضحك الجميع على ذلك، لم يشعروا بوجودي عندما تركتهم وقت ذهابي للبيت، وجلست مقابل المدفئة، لم يمر على ذلك خمس دقائق حتى سمعت صوت الرصاص الذي يمزق الهواء ويرتطم بقضبان النافذة والجدار، وليته اكتفى بذلك وحسب، بل خرجت مذعوراً من البيت إلى حيث كنت قبل خمس دقائق، لقد رأيتهم ، في سط صخب وعويل الذين هرعوا معي، كان يوسف ملقى بوجهه على الأرض وبجانبه، كان يونس ممدداً يحني رأسه ، وسليمان الذي كان أصغرهم سناً، وصالح هو الآخر يصرخ، وحمد الذي كان واقفاً وقد تمزقت ملابسه وتلطخ كتفه الأيسر وثقب ظهره بثقبين كبيرين ينزف منهما الدم، كنت واقفاً معهم الآن، وكنٌا نمزح سوية معاً الآن، مابال هذا الموت وماقصة يوم الخميس هذا، لم أعرف مالذي يجب علي أن أفعله كنت أقف والصدمة تنال مني في جمود، عندما رأيتهم يجرجرون للسيارة والدماء تملأ أرضية الملعب-المرآب وتلطخ الإطارات التي كانت كالموانع من الدخول إليه، وتسربت في داخلي فكرة أنهم ربما يبحثون عني أنا للنيل مني، حملت البندقية و سحبت أقسامها وجهزت الطلقة لبيت النار وكانت فعلاً تشتعل بداخلي كمراجل من الحقد والغيظ، وقد ارتسمت علائم التهور في وجوه الشباب جميعاً ” لقد باتوا اليوم من المغضوب عليهم”، وها أنا أذكر ماقاله الدكتور إحفاف محمد ناجي يوماً، “إذا بقيت معي ذاكرتي بعد موتي فأنا ذاهب للجحيم في جميع الأحوال”.
عرفت أنهم سلبوا أرواحهم، و ذهبت أدراج الرياح. مثل أحلامنا التي تمنيناها منذ نعومة الأظافر، لم أكن أرغب المستحيل ، جل ما أتمناه أن أعيش حتى التقاعد ، ليس من المهم ان أتقاعد من عمل خاص ، عمل حكومي ، أو عمل إنساني ، لا أعرف إن كنت سأصبح سياسيا جيد،أو رجل أعمال ناجح ، أو ينتهي بي المطاف لأقتل كزعيم مليشيا ، أو مجرد قذيفة طائشة تقبض روحي وأمنياتي إلى السماء وأنا أتجرع آخر رشفة من كأس نبيذها من كرم إيطالي ، إن نجحت في عبور ماسبق ، سأتمنى أن يكون لي زوجة ، ليست مجرد زوجة اعتيادية مملة يزداد وزنها كما يزداد سعر العقار في هذا البلد البائس ،
سأكون عشيقها ، لن نخوض قصة حب عنيفة ونلفت الأنظار ، نرزق بطفلين أو ثلاتة ، نحتفظ بسيارتنا القديمة وفيها ذكرياتنا ، سأمضي آخر أيام تقاعدي من الدنيا في صيانة هذه السيارة ، وحب العجوز التي رافقتني في مسيرتي ، مجرد حب ، الحب أمر اعتيادي ، صحيح أن الوقوع في شراكه ليس سهلا ، لكنه ليس بالمعجزة التي يروج لها سكان تلك المناطق ، أسمعهم دائما يرددون أن الحب والود يأتي بعد الزواج ، الزواج هناك يحتاج 100 ألف دولار ، وفتاة تجيد الطهي والرقص ، لكن في حيرة من أمري ، ماذا لو نتشاطر أنا وهي اهتمامات متقاربة ؟ سأروي لها أحداث حصار حصن الباستيل في ليلة صيفية ، وتجادلني حول كونه حصار للصوص أم مجرد سجن لقطاع الطرق ومزوري العملة ، ماذا لو لم تعرف أحداث حصن الباستيل الذي كان حجر أساس للعنف في الثورة الفرنسية ؟ ماذا لو قالت مثل باقي أفراد شعبها ، يرددون أن فرنسا أصبحت جيدة بعد عشر سنوات من الثورة ، “ايه ايه نعرف، الثورة الفرنسية خدت 10 سنين باش الشعب قدر يحقق أهدافه ” قالت زوجتي المعتوهة . أنا أظن عكس ظنهم، الحب ليس معجزة ، الود لن يأتي بعد الجماع مباشرة ، الأمر سيتحول فقط إلى اعتياد ، تعتاد نفس الفتاة البلهاء إلى ل50 عاما ، تنجبان 5 أطفال ، صلاح وعلي ومنية ومبروكة وبرنية ؛ لكن هذا لن يحدث ، لن أنجب من الأطفال خمسا ، أو أسمي ابنتي برنية تيمنا ب أم زوجتي البلهاء، الحب في زمن الحرب الأهلية ، الحرب بشعة ، الحب في الحرب يصبح فعليا معجزة ،
فالقبائل تتناحر ، العرقيات تنفى ، الويل والعذاب سيطالك إن أحببت فتاة من قبيلة ، تحمل أيديولوجية عكس التي تحملها قبيلتك ، بالرغم أن كلتا القبيلتين لا تفقهان لكلمة الأيديولوجية معنى ، ستكون أنت الشرارة الأولى لدك حصون طغيانهم وتخوض ثورة ضد قوانين مدينتهم المحرمة ، ثم لو نجوت أنت وهي ، اهرب ، اهرب بعيدا ، حاول اكتشاف أفريقيا ، سيراليون أو ناميبيا ، مجرد كوخ صغير في الأدغال يكفي ، لا تقلق الآن ، سيموت رب قبيلتك ، وتقضي الكارما على أيديولوجية قبيلتها ، سيهلكون جميعا قبل أن يعرفا معنى أيديولوجية ، عد حينها إلى بلدك ، حاول مواساة أهلها ، سيمر الوقت سريعا ، لتجد نفسك مجرد عجوز ، عجوز شجاع ، عاش الحب في زمن الحرب الأهلية ، لن تكون قليل الحظ كباقي من ارتضوا أن يخوضوا الحرب والحب ، دون أن يحبوهما ، اليوم لا باستيل يحصن الطغيان ويكبح الجموح ، بل مجرد نبلاء ، نبلاء ينتفضون ضد الظلم ، يشيدون قلاع الأمل من غبار الألم .
كان كل واحد منهما، يونس ويوسف، يحمل قرنفلا أحمر، هذه الطقوس التي تعتبر احتفالا بعيد الأم في مكان ما في هذا العالم الجميل، خارج مناطق عيشنا البائس،.تقريبا الجميع، فعل ذات السلوك، باستثناء الكارهين للمجتمع، مع أن الجو يومها كان عبوسا بل وباردا.”
يوسف ويونس، وأبوسعدة. رفاقي
فليقدس الله أرواحهم، أرواحهم جميعاً أولئك الطيبين والأبرياء، الذين قتلوا بلا ذنب اقترفوه يوماً، بل لما أصلاً، أو. فليقدس الرب أرواحهم، لعل رب المسلمين، الذين يصورونه على أنه ذلك الإله الغاضب الذي يحمل السيف، لن يغفر لهما!
ألف قرنفلة حمراء لقبريكما أيها الرفاق.
وداعاً