قصة قصيرة : عبدالرحمن جماعة
قصة النملة التي قرصتها هي من أهم الأحداث التي مرت على تاريخ البشرية، كنت أستمع إليها بكل جوارحي، وكانت هي تحكي بكل مشاعرها وأحاسيسها، لم أكن أعرف أن قرصة نملة سيكون لها كل هذا الأثر، ولم أكن أتوقع أن تحمل قصة كهذه كل تلك التفاصيل المهمة!.
كنت أعيش القصة معها وكأنني أشاهد النملة وهي تتسلق ساقها في مشهد تم تصويره بالبطيء، مصحوباً بموسيقى حربية!.
براعتها في السرد جعلتها تُجزِّئ الحدث الواحد إلى أحداث متعددة ومتلاحقة ومتسارعة، حذفت حروف العطف لتزيد من سرعة تتابع الأحداث، ترفع من طبقة صوتها مع كل حدث، حتى خُيِّل إليَّ وكأن كل حدث ما هو إلا صرخة مدوية، وأن كل من في الأرض يُرهف سمعه لتلك الصرخات، وأن السفن في المحيطات أطفأت محركاتها، وأن الطائرات في الجو فتحت نوافذها، وأن رئيس أكبر دولة في العالم أوقف خطابه أثناء حديثه عن الضرائب، وأن كل السُحب والرياح والأمواج توقفت، وأن قطرات المطر بقيت معلقة بين السماء والأرض، وأن كل من في الكون كان في حالة ذهول وانتباه وترقب لهذا الحدث العظيم!.
النملة تحتاج إلى بضع ثوانٍ لتتسلق أي ساقٍ حتى لو كانت كساق لاعب كرة سلة طولاً، أو كساق راعٍ بدوي خشونةً، أو كساق أحد مصارعي السومو سُمكاً، وتحتاج إلى بضع ثوانٍ أخرى لتنفذ قرصتها، لكن الغريب في الأمر أن سردها للقصة كلفني نصف ساعة وثلاث سيجارات وإخلاف موعدٍ مهم مع صديق!.
لا أدري لِمَ بتُّ أكره تلك النملة الهولاكية الملعونة.. وأحقد عليها، مع أنني لم أكره نملة في حياتي ولم أجرب شعور الحقد أو البغض أو الحسد تجاه أي نملة، رغم كثرة النمل الذي قرصني، ورغم ضراوته ووحشيته!.
أعرف أن كثيراً مما قالته يعتريه الشك؛ ومع ذلك أجدني متيقناً به كيقيني بأنني أحبها.. وأكره النملة، وأن كثيراً مما سردته هو ضرب من الخيال؛ لكنني أجده أشد واقعية من الواقع الملموس المحسوس، وأن القصة برمتها لا تستحق الاستماع إليها؛ لكنني أراها أهم من ملحمة جلجامش ومن معلقة عمرو بن كلثوم ومن خطبة قس بن ساعدة ومن كتاب ألف ليلة وليلة.. ومن كل دساتير الدول!.
الشيء الوحيد الذي لا يُمكنك تصديقه، ولا يسعك الوثوق به، ولا تقدر أن تفهمه أو تهضمه، لأنه منافٍ للواقع، مجافٍ للصواب، مخالفٌ لقوانين الفيزياء، متعارضٌ مع كل المعادلات الرياضية منذ إقليدس.. إلى أستاذ الرياضيات المصري الذي طردني من الحصة لأنني كنت أبحلق من النافذة!.
الشيء الوحيد الذي لا يتقبله عقل ولا يرضاه قلب ولا يتماشى مع أي منطق.
الشيء الوحيد الذي كاد يجعلني أهِمُّ بأمر سوء؛ وأكفر بالقصة من أساسها..
هو:
كيف يُمكن لنملةٍ أن تتسلق كل تلك النعومة… ولا تتزحلق؟!.