لكلّ منّا ذكرياته الخاصّة، السعيدة منها والحزينة، ومنها ما نودّ أن نرويها ومنها ما نغالب أنفسنا على تناسيها، وقد نتجاوز ألم الافتراق وتستمر بنا رتابة هذه الحياة، ولكن ذكريات المكان ستبقى تعيش معنا وفينا، وستظلّ تنبض بالحياة طالما يستمرّ القلب في الخفقان.
مع العلم أن الذكريات الجميلة – وكما يُقال – تُؤلم أحياناً أكثر من الذكريات السيّئة، لأنّ الذكريات السيّئة بعد مدّة ستمضي وتصبح ذكرى ضبابيّة أو حتى تُنسى تماماً خاصّةً عند أصحاب القلوب السليمة. بينما الذكريات الجميلة لا تُمحى و لا تُنسى مهما مرّ عليها الزمن ومهما حاولنا الانغماس في مشاغل الحياة اليومية ومهما ادّعينا الصبر.
وهنا يحضرني قول الشاعر أبو تمّام الطائي حين قال:-
و لقد أراكِ فهل أراكِ بغبطةٍ *** و العيشُ غضٌّ والزمان غُلامُ
أعوام وصلٍ كان يُنسى طولها *** ذكر النوى فكأنها أيامُ
ثمّ انبرت أيّام هجرٍ أردفت *** بجوىً أسىً فكأنّها أعوامُ
ثمّ انقضت تلك السنون وأهلها *** فكأنّها وكأنّهم أحلامُ.
إنّ محتوى كتاب «فيض الذكريات.. سليمان منينة يتحدث عن شخصيات أَثْرت الحياة المصرية» للكاتب شكري محمد السنكي في حقيقة الأمر هو ليس فقط عن ذكريات السيد سليمان منينة، بل إنّه من الأدلّة التي تسلط الضوء على فترة المملكة الليبية وكيف كانت. حيث إنّه منذ استقلال البلاد كان أكبر قَدْر من ميزانيّة الدّولة يُخصّص إلى وزارتي الصحة والمعارف، فصحة المواطن الليبي وتعليمه كانا هما الشغل الشاغل لرجال المملكة الليبية ومؤسسي الدّولة، والسيد سليمان منينة هنا أحد هذه الأمثلة على ذاك العصر النهضوي والمواكب للحضارة مع الحفاظ على تعاليم الدين الإسلامي في آنٍ واحد، فقد تحصّل على الشهادة الثانوية من مدرسة بنغازي للبنين ومن ثم سافر طلباً للعلم في المرحلة الجامعية في مصر، و كان نموذجاً طيباً للطالب الليبي في الخارج المُنكبّ على دراسته والمُتتبّع للنخب والشؤون الثقافية وقتئذ.
وللقارئ الكريم المقدرة على التمييز والحكم بعد الانتهاء من القراءة، حيث إن الكاتب – وكما هو دأبه في كلّ كتبه – يثري مادة الكتاب بالهوامش التي تكون جنباً إلى جنب مع المتن، كذلك الوثائق والصور اللتان تكونان إضافةً للكتاب وإثراءً له. ولأن العملية التأريخية تعتمد بشكل كبير على الوثائق، فإن الكاتب هنا – وفي بقية كتبه – يعتمد على لغة الوثائق والأدلّة والحُجج الدامغة، وهذه هي لغة الحوار الحقيقية، وعندما تحضر لغة الأدلة الدامغة لا يصبح أمام الطرف المعارض إلا أن يقر الحقيقة ويعدل موقفه، أو يذهب إلى التطرف حيث لغة العنف والإجرام.
بقراءة هذا الكتاب القيّم ستسافر بنا عبر الزمن ذكريات السيد سليمان منينة ليسرد ليسرد للقارئ الكريم تجربة تَعرُّفه إلى شخصيات مصرية ذات قيمة حضاريّة ورمزية ثقافيّة، شخصيات قدّمت أجمل ما عندها لإمتاع الجمهور العربي دون أن تُغريها المادّة والأضواء. و هناك من التفاصيل ما لم يُذكر في الصحف أو الإعلام، لكنّه يشاركنا إياه سليمان منينة بكلّ تواضع من خلال معرفته الوثيقة بتلك الشخصيات والتي لم تنقطع صلته بها، رغم ما مرّ من خلافات سياسيّة طويلة بين البلدين. سيتفاجأ القارئ بكم هائل من القصص بين صفحات هذا الكتاب، بالإضافة إلى النوادر والقفشات فلا يخفى على أحد خفّة ظل الشعب المصري ونكتتهم الحاضرة، علاوة على روح الأُخوّة والنخوة والكَرم مع الغريب.. وسيتفاجأ القارئ أيضا كيف كان لأحد هؤلاء الرموز تفانٍ كبير جداً في العطاء، حيث قرض الشعر وأطرب المستمعين على مدار 50 عاماً دون أن يتقاضى أجراً على ذلك. وقد امتزجت كل هذه الإنجازات من تلك الشخصيات لإنتاج قالب فنّي فريد من نوعه أطربَ وأشجى أجيالاً تلو أجيال، وهذه الشخصيات هي كالتالي:-
صالح جودت
سيّد مكّاوي
أحمد رامي
ام كلثوم
شكري راغب
زينب صدقي
إن بين دفتي هذا الكتاب استطراداً محبباَ لسرد الوضع الثقافي والحضاري الذي واكبته دولة المملكة الليبية منذ إعلان استقلالها حتى ما قبل حدوث كارثة الانقلاب. إن الأمثلة في هذا الكتاب كثيرة فهو غزير بالمعلومات وثريّ بالقيمة التي به مثال ذلك زيارة سيّدة الغناء العربي كوكب الشرق أم كلثوم للمملكة الليبية العام 1968م وانبهارها بكل ما رأته سواءً في مدينة بنغازي أو في طرابلس من انجازات حدثت كلها في زمن قياسي ووجيز، حيث إن عمر المملكة لم يدم سوى 18 عاماً، لكنه كان عهداً لم يكن له مثيل لا قَبله و لا بعده، وعهداً قَبِل التحدّي الصّعب ببناء دولة من الصفر وإيصالها إلى برّ الأمان. وبعد كل ما تحقق من نهضة وإنجازات، قَطَف ثمرة كفاح ونضال الآباء المؤسسين ثلّة من المُخرّبين على طبق من ذهب، العهد الذي فتح أمام شعبه – وقبل كارثة انقلاب الأول من سبتمبر 1969م – الآفاق للتعليم على أيادي أكبر المدرسّين وأقوى المناهج، وجعل التعليم أولوية لدى الدولة، وقام بإرسال البعثات العلمية لأرقى الجامعات العربية والعالمية وفي هذا يحضرني قول الشاعر عن ذاك العهد:-
«هلّت الأنوار على بلادي والفرح اغمرها ..
بين الاقطار اتقول وردة يعجب منظرها ..
عاشت الأحرار وعاش إدريس اللي حررها .. عاشت الأحرار وعاش البطل اللي حررها.
في عهد النور اتهنينا ..
و انسينا قسوة ماضينا ..
و أحلى الأيام بدت لينا ..
في نعمة لا من ينكرها » .
أو كما قيل: « كنّا هناك وكانت مراعينا .. ليتنا ما كبرنا ولا زادت مواشينا »
وفي الختام لا يسعني الاستطراد في تفاصيل هذا الكتاب أكثر حتى لا أفسد عنصر المفاجآت التي تملأ كل صفحاته، كذلك القارئ سيخلُص إلى نتائج عدة، ولكن أهمها سيتمنّى التعرُّف على شخصية السيد سليمان منينة أحد قامات مدينة بنغازي ومن كبار مثقّفيها وابن عائلة مجاهدة لها أيادٍ بيضاء في تاريخ بلادنا عبر الأزمنة.
بقلم: أسماء محمد عمر
السبت الموافق 21 أكتوبر 2023م
* كتاب: «فيـض الذّكريّات.. سُليْمان منينـة يتحدث عَن شخصيّات أثرت الحيَاة المِصْريّة»، صدر في 24 مِن شهر نوفمبر 2018م، عن دار الرَّواد الليبية، وموجود في مكتبة دار الرواد بالعاصمة طرابلس، ومكتبة دار الوليد الكائنة أمام الباب الخلفي لجامعة طرابلس.