بقلم : ليلى المغربي
لأهالي فزان وسليمة بن نزهة قلب فزان
من يدعي أنه لا يكذب فهو كاذب صدقوني ، نعم كاذب لأننا جميعاً نكذب ، تلك الكذبات الصغيرة المبررة ، المستحقة أحياناً ، التي تحمينا وتحمي خصوصيتنا من أعين الفضوليين المتلصصة على أفكارنا ودواخلنا ، على مشاعرنا ورغباتنا ، ومن يدعي أن لا ألوان للكذب فهو مخطئ تماماً ، للكذب عدة ألوان منها الأبيض والرمادي والأسود والأصفر .. وحسب الكذبة ومضمونها يكون لونها ، فالكذبة البيضاء مثلاً حين أقول لحبيبي : أكرهك .. والواقع أنني أعبر عن غضبي منه والانتقام كرد فعل تلقائي لشيء أثار حفيظتي ، أو غيرتي .. كبريائي ، غروري .. والواقع أننا لا يمكن أن نكره من نحب لكننا نكذب بهذا الشأن وهي كذبة بيضاء .. أما الصفراء فهي حين نكذب وندعي أننا منشغلين إذا أراد أحد ما زيارتنا أو مواعدتنا ، نكون في مزاج سيء لا نرغب فيه بلقاء أحد ولا شرح تفاصيل المزاج السيء وما يرتبط به حفظاً للخصوصية لا أكثر ، لا أود تفصيل شرح ألوان الكذب لكن الكذبة السوداء هي ما أمقته وأتجنبه لأنها خبيثة ومؤذية .. واعترف بأنني أمارس الكذب الأبيض كثيراً وأحياناً الأصفر إن دعت الضرورة ، وقد يسألني أحدهم ما مناسبة كل هذا التفصيل للكذب وألوانه .. والسبب أنني كلما كذبت أكتب لأخفف وطأة الكذبة على نفسي عامدة إلى الاغتسال منها ، فقد أخبرني صديق قبل أيام أن لديه تأشيرة أوروبية قاربت على الانتهاء ولم يستعملها ، قلت له : يا أحمد استفد منها ..سافر ، وحين تصل أوروبا مزق جواز سفرك وخذ لجوءً .
أجابني: لا أرغب بهذا ولكن دعيني أسألك لو كانت عندك تأشيرة هل تسافرين وتقيمين هناك ؟
ــ نعم ، فقط لو أحصل على تأشيرة ، لن أفكر مرتين ولن ألتفت إلى الوراء ..
أنا يا أحمد منذ أعوام أبدأ كل عام متفائلة ، أرسل الأمنيات بالسعادة لكل من أعرفهم ، وأمني نفسي بأن هذا العام سيكون أفضل من سابقه ، لكن ما أن يمر اسبوع حتى يبدأ مؤشر التفاؤل بالانخفاض سريعاً كمؤشر بنزين السيارة ، لكن الفرق أنني قادرة على ملئ خزان الوقود في سيارتي هذا إذا لم نكن في أزمة طبعاً ، أما التفاؤل فخزانه يحتاج لوقود من نوع أخر .. وقود لا أمتلك ثمنه وغير قادرة على توفيره ، وكلما مضت الأيام وتثاقلت بحملها أتحمس للفكرة وأبدأ بحزم حقائبي في مخيلتي عسى أن أجد فرصة للفرار من هذا الوضع التعيس ، في خيالي انتقيت كل قطعة سأحملها معي وأنا أوضب حقائبي كي لا تعيقني هذه العملية في التأخر عن التحضير للسفر .
ــ وماذا وضعتِ في حقائبك ؟
ـــ لم تكن أغراضي كثيرة ، فأنا أحب التغيير ولا أتعلق كثيراً بالأشياء المادية ، عطوري وفستان شتوي تركته أمي عندي قبل وفاتها وجهاز الأيباد الذي حولته لمكتبة الكترونية ، لكن ما استغربه أنني كلما اتجهت إلى المكتبة لانتقاء كتب ورقية قليلة أصحبها معي ، أجد كتابين قفزا إلى الحقيبة في غفلة مني “الحوليات الليبية” و”نحو فزان” وكلما أعدتهما إلى المكتبة ألتفت لأجدهما وسط الحقيبة ، هل تصدق يا أحمد أنني لم أزر فزان يوماً وحين أتخيل فزان أراها في وجوه من عرفت وأرسم لها العديد من الصور التي كتب عنها الكوني ، عن الصحراء الساكنة الساحرة ، بجمالها الهادئ بلونه الأصفر المتدرج ، عن قسوتها ونقاوتها ورهبتها .. تخيلت حرها اللافح وبردها القارص .. الكوني الذي يتقن بمهارة فائقة تحويل الصحراء لحسناء تأسر قلوب الفرسان ، ويستدعي مكامن الجمال في صحراء فزان في توليفة بين التاريخ والخرافة والتصوف والفلسفة صانعاً منها إسطورة بديعة التكوين ،عرفتها في بعض أهلها ولمست الروعة التي تسري في دمائهم ..
ـــ أستطيع أن أتدبر لك تأشيرة ..
ـــ أنا .. كل صباح أفكر في السفر.. أوضب حقائبي في خيالي ، لكنني حين أشعر أنني قد أغادر حقاً أشعر برعب حقيقي ، لا أدري ما الذي يربطني بهذه الأرض ، كيف لإمرأة مثلي ولدت خارجها أن تكتشف مدى عمق جذورها الضاربة هنا ؟ متى حدث هذا ؟ عشت أغلب سنوات عمري في اطرابلس ، لكنني كلما زرت مدينة فيها أشعر بألفة غريبة مع المكان ، أتحد مع الهواء والتراب ، أي سحر مارسته هذه البلاد عليّ ؟ أنا التي اعتدت عدم التعلق بالأشياء ، تأسرني هذه البلاد وكتابين .. ترى هل قبري أمي وأبي هما السر ، أم أنها رغبة أبي الذي أراد لنا أن نعيش في وطننا ، أو ربما رسالة على هاتفي تقول “ليلى العزيزة أفتقدك،وأعرف أنك بلا كهرباء وتعانين ظروفاً صعبة” .. كيف نستطيع أن نحيا دون عائلة وأصدقاء ، وكل مساء أفرد حقائبي وأعيد أشيائي لأماكنها عازمة على توضيبها مجدداً إن سنحت الفرصة فقد بت أعرف ما سأحمله معي ، رغم ما يحمله عرضك من إغراء، لكنني أشكرك فقد كنت أكذب عليك إنها كذبة يناير.. كل يناير تراودني هذه الفكرة ثم أعدل عنها بعد أن اعتاد البؤس الذي يحيط بنا، ترددي هذا يذكرني بقصيدة عمر الكدي ” بلاد تحبها وتزدريك” ، لم لا أقابل الإزدراء بإزدراء؟ حسناً قد أفعل يوماً أما الآن فإنني أجهل كيف أقتلع جذوري من هذه الأرض وأزيح الكتابين من حقيبتي .