ابراهيم عثمونه
قبل اسبوع كنت في طرابلس ، وكما هي العادة حين أكون هناك تجدني أنا وصديقي “عمر عبد الدائم” على موعد في جلسة على كرسي الشط (كما نحب أن نسميها) ، وأيضاً كما هي العادة في هذه الجلسات يكون جل حديثنا في الثقافة والفن والأدب والفكر وقليلاً من السياسة . لا نشعر بالوقت ، ولا نشعر بالناس من حولنا ، ولا شيء سوى حديث يمر على مواضيع عدة ويتوقف عند مواضيع عدة ، وفي هذه المرة كانت لنا جلستين ، وفي الجلستين كنتُ أصله متأخراً ومعي (الذرة المشوية) . كان يزعجني بتلفوناته المستعجلة بأن لا أجلب معي شيئاً ويهددني بأنه سوف يغادر الشط إن تأخرت أكثر ، وكنتُ أرد عليه ، وأنا أختار وأفاضل بين أكبر “السبول المشوي” ، بأنه لن يستطيع أن يغادر ، بل كيف يغادر وهو الذي ينتظر في موعد كرسي الشط منذ فترة.
لا نحدد المواضيع ولا نختارها بل نترك الحديث لوحده يختار ويحدد ، وكل ما نقوم به هو أننا نفتح الفكرة ونضعها أمامنا على طاولة الشط ، ومن فكرة إلى أخرى حتى يذهب الليل بعيداً فنلملم حوائجنا ونتواعد على لقاء قادم . في إحدى جلستي الاسبوع الماضي قلتُ له انني لا أذكر ملامح وجهها جيداً ، ذلك انني لم أنظر لها جيداً ، وكل ما أذكره أن في وجهها شيئاً رائعاً ، وحين سألني عما هو بالضبط ، وهل هو في عينيها أم على الفم أم أنفها الدقيق أم بشرة خديها أم ماذا بالضبط ؟ صمتُ لأقل من دقيقة ثم قلتُ له أنني لا أعرفه في أي مكان من الوجه ، ولو اعرف مكانه يا صديقي لما قلتُ عنه رائعاً ، ذلك أن الأشياء التي تراها وتتعرف عليها تفقد الكثير من روعتها . شيء لمحته أو هو شيء يجري في لمحة لا تدركها العين.
ما كنتُ أحسب قبلها أن الأشياء التي تجري هي الأكثر روعة ، وما كنتُ أعرف أنه كلما اسرعت الأشياء وتوارت أو تلاشت كانت أكثر روعة من تلك التي لا تتلاشى ، ولا كنتُ أعرف انه ثمة تناسب طردي بين سرعة الأشياء واندثارها وبين روعتها.
تركتُ عبد الدائم يسرح لأكثر من دقيقة عني ، حين بدى لي كما لو أنه يستعيد صورة وجهها ويفتش فيه عن هذا الذي يجري ويتوارى ، وقلتُ في نفسي قد يجده ويلمحه يطير من وجهها في الهواء ، وقد يقول في سره طوبى لهذا الهواء الذي يصحبها وهي تنشر فيه ملامحها الطيارة ، وطوبى لعيون المارة من حولها وهي تلاحق ذلك الذي طار لتوه وتلاشى في الفراغ ، وقلتُ ايضاً في نفسي قد يستعيد صديقي عمر عبد الدائم صورة وجهها بعد أن يتركني ويستفرد به لوقت أطول لكنه لن يقبض على شيء منه . كنتُ منهمكاً في واحدة من حبات الذرة المشوية حين تركته سارحاً ونظرتُ له من أسفل في حين بدى لي كما لو أنه يختبئ ويرصد حركة شيء على وشك ان يجري من أمامه ، وساعة رأيته تململ في جلسته عرفتُ أن ذلك الشيء قد مر في خياله لكنه فشل في القبض عليه.
اخبرته قبل أن نترك ملامحها وننتقل إلى موضوع آخر ، بأن سر الجمال ليس فقط في بساطته بل ايضاً في قدرته على التخفي والهروب ، وأن فكرة التخفي والهروب التي يمارسها المجرمون ما كانوا ليعرفوا فنونها لو لم يكن أول مجرم على وجه الأرض كان قد طارد الجمال وفشل في القبض عليه ، ليكتشف هذا المجرم بعدها أن التخفي والتواري خلف الأشياء لا يحتاج جهداً بقدر ما يحتاج إلى حرفية وفن . لذلك توجد دائماً يا صديقي علاقة بين الجمال والجريمة . فالجريمة أي كان حجمها ما كان الإنسان ليُسميها جريمة لو لم تكن عملية سطو على الجمال ، والجريمة عبر التاريخ لا يمكن ان تحدث إلا على الجميل ، والجميل هو طريدة الجريمة منذ القدم ومنذ ان طارد أول مجرم على وجه الأرض أول جميل وفشل في القبض عليه ، وأن نقطة ضعف الجمال أنه يُحب كل مَن هو جميل ، وأن أخطر المجرمين هُم أولئك الذي يرتدون أزياء ملونة من كل الأشكال ليوهموا الجمال بأنهم من جنسه ، وأنهم أجمل المخلوقات حتى إذا استأنسهم هذا الجمال قبضوا عليه وقتلوه أو أودعوه السجن ، ولو كان الجمال أكثر نباهة وفطنة مما هو عليه اليوم لكان من الممكن أن لا يقع في هكذا فخاخ ، ولكان من الممكن ان لا تخدعه المظاهر المزركشة ، ولكان من الممكن أن لا تنطلي عليه ألاعيب وظوهر الأشياء ، ولكان من الممكن أن لا يغيب عقوداً عن أي مكان في العالم ، لكن الجمال دائماً بسيط حتى وإن كانت له قدرة على التخفي والهروب ، والبساطة في كثير من الأحيان توقع صاحبها في حبال الحيلة ، وعندها قد لا ينفع التخفي يا صاحبي ولا ينفع الهروب.