محمد عثمونة
وكأن أمرا ما يلاحق طرابلس وحاضنتها بغرب البلاد مع كل ظرف استثنائي مفصلي في حياة ليبيا والليبيين يجعلها تغفل ويغيب انتباهها عن أنها مفردة أساسية من الكيان الليبي والذي لا يكتمل إلا بالتحام غرب البلاد الذي يختزله مُسمّاها واندماجه بصنّويها برقة وفزان . فنجد غرب البلاد مع حلول الاستثنائي والمفصلي في حياة البلاد يبتعد رويدا رويدا عن السرب الليبي ويصير يغرد خارجه . بدون مراعاة لما قد يُلحقه من ضرر بنفسه وبليبيا والليبيين .
فإلام يرجع هذا الأمر المُحير يا ترى ؟ . هل إلى لعنات تلاحق (حفرة الدم) كما تقول عنها الأسطورة الشعبية الليبية؟ أم إلى منسوب عال من التلوث يخالط ماءها؟ وهو المعادل الموضوعي المرادف لمفردة الحياة ببيئتها كما جاء في متن أحد الروايات الأدبية الليبية الشهيرة . وبإيجاز شديد لذلك الأمر والذي اختصره كتاب التاريخ في سطوره عندما قال : بأن غرب البلاد وحاضرته طرابلس ومع بداية العشرية الأولى للقرن العشرين قد احتضن ما عرف حينها ببنك روما .
الذي تمدد عقاريا إلى داخل طرابلس الكبرى كما تُعرف الآن وأسس بذلك لرأس جسر تمكنت ومن عليه جيوش الأجنبي من الاندفاع إلى داخل غرب البلاد وانتهت إلى وضع يدها على كامل ترابه وعندما أقلقت المقاومة الوطنية بشرق البلاد وجنوبها جيوش إيطاليا قررت هذه كسر شوكة المقاومة ووضع يدها على جملة التراب الليبي فتمكن الكولونيل امياني وبدون جهد يذكر من تجنيد جل القبائل بغرب البلاد .
جاعلا منها رديفا لجيشه المتجه نحو شرقها لاحتواء المقاومة وكسرها ومن ثم بسط نفوذه على كامل الأرض الليبية. وربما قد كان يحدث ما خطط له الجنرال الإيطالي لولا تدخل مصراتة أثناء تقدم الجيش شرقا من خلال تواصلها مع زعماء تلك القبائل لإقناعهم بأنه ليس من المقبول الاصطفاف مع الأجنبي في وجه الخط الوطني وقد تكلل جهدها بنجاح وانتصار كبيرين تماما كما نجح جهد مواز من الإمساك بمنتصف العصا فكان بذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء واستطاعت مصراتة بهذا الفعل الاستثنائي وفي هذا الظرف المفصلي من قلب ظهر المجن للجنرال امياني بانحيازها بعدما جرت جل الغرب الليبي إلى خندق الوطن إلى خندق صفي الدين السنوسي وصالح الأطيوش وحمد سيف النصر واقترحت ودونت بهذا الفعل مسمى القرضابية وثبّتته كعلامة فارقة في قاموس الجهاد الليبي وانحسرت بذلك وبعد القرضابية مساحة ما تحت يد الجيش الأجنبي من التراب الليبي برقعة ضيقة لم تتخط مدينتي الخمس وطرابلس بغرب البلاد . فلابد من التذكير بذلك لأن إعادة الحدث وبعد مضي قرن من الزمان .
وتكراره وبكل تفاصيله برغم ما ألحقه من ضرر معنوي كبير بالغرب الليبي في مكونه الاجتماعي حينها . يُظهر ويُبين بأن عقل ونخب غرب البلاد عاجزة عن خلق الوشائج الوطنية التي تشد بها وتربط الغرب ببلاده وهي الخطوة الرئيسية في اتجاه زرع وازع جمعي وطني يؤمن حدا أدنى من السلوك المسؤول تجاه بلاده وشركاء الوطن وقد ظهرت هذه الفجوة وبوضوح في حاضرنا الذي نعيش . وتلبّست غرب البلاد هذه الحالة مع أولى الإرهاصات لحدث استثنائي مفصلي حاول الليبيون بلورته في آلية بديلة لإدارة شأنهم العام من خلال انتفاضة 2011 م .
قد يتمكنون بها من التأسيس لمشروع خدمي تنموي إنمائي ذو بُعد محلي وطني قد ترتفع بها الحياة داخل وعائهم الجغرافي إلى مستوى يتناسب مع مُتطلبات حياة الآدميين . وقبل أن تنضج وتستوي أدوات وآليات المشروع المأمول بادر غرب البلاد بالانسلاخ عن جسم انتفاضة كل الليبيين واصطف وراء عرّاب مؤتمر الصخيرات الذي سعى ولازال إلى جر انتفاضة الليبيين من هموم الداخلي المحلي الوطني إلى فضاء شرق أوسطي من خلاله يستطيع عراب مؤتمر الصخيرات أن يعمل على إعادة ترميم وإنتاج كيان الشرق الأوسط الذي جاء إلى الوجود على يده عبر ترتيبات دولية عقب الحرب العالمية الأولى والذي بها وبه استطاع استنزاف الطاقات والموارد البشرية والطبيعية لفضاء جنوب وشرق حوض المتوسط . وجعل بذلك هذا الفضاء الجغرافي البائس قاعا صفصفا لمن فوقه ويعيش عليه .
فعراب الصخيرات هو بعينه من كان وراء الترتيبات الدولية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وجاء على يديّه ما نتداوله ماضيا وحاضرا بمسمى الشرق الأوسط فاصطفاف غرب البلاد في زمن انتفاضة الليبيين خلف من كان وراء إنتاج مؤتمر الصخيرات لا يختلف في شيء عن اصطفافه زمن الإيطالي خلف الكولونيل امياني عام 1911 م
. فهذا الاصطفاف في وقتنا الحاضر لا غيره أو سواه من فتح بوابة طرابلس لجيش الأتراك ومرتزقتهم ليتمكنوا من تراب غرب البلاد وليجعلوا منه قاعدة انطلاق للتمدد على التراب الليبي بأدوات وأساليب خشنة حينا وناعمة أحيانا وهو من منح توقيعه وتفويضه للأتراك باسم الليبيين للتصرف في التراب الليبي ومجالاته تماما كما مكّن بنك روما الطليان عقاريا من أراضي ما يُسميه الآن طرابلس الكبرى. واستنادا إلى ما سبق فغرب البلاد والحالة هذه كان دائما وعندما يعترض حياة البلاد استثناء أو ظرف مفصلي يحتاج من الوطن التكاثف والتراص لتخطيه وتجاوزه إلى الأفضل سوف لن تجده إلا في الخندق الآخر . وفي أحسن الحالات سوف يسعى ليكون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فمثلا
. عندما سيذهب – وهذا آت لا ريب – عراب الصخيرات ومخرجاته وتوابعه وملحقاته في اتجاه توطين كل ما تضمه مراكز إيواء المهاجرين المنتشرة في فضاء طرابلس الكبرى ومحيطها بغرب البلاد سوف لن تهتز له قصبة . وسيقف هذا الإقليم الليبي لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء . قد بينت الأحداث المفصلية التي مرت بها ليبيا ماضيا وتعصف بها حاضرا بأن لم يتشكّل لديه بعد الوازع الداخلي الدافعنحو سلوك مسؤول تجاه شركائه في الوطن وهذا ما سوف يشجع عراب مؤتمر الصخيرات وتوابعه على التحرك في اتجاه التوطين . ليجعل من هؤلاء المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء ودول جنوب شرق آسيا رديفا واحتياطا لمليشيات طرابلس الكبرى التي يتكئ عليها في رتق الفتق الذي أصاب نسيج كيان الشرق الأوسط في هذه البقعة من جنوب حوض المتوسط. ليُعيد البلاد إلى ليس غير منجم هائل للموارد الطبيعية مع خزان بشري متنوع المواهب يتموضع على موقع جغرافي هام بإقليم حوض المتوسط ليجعل من كل هذا رافدا من الروافد التي تُغذي كيان الشرق الأوسط بالحياة.