- عبدالرحمن جماعة
الأرقام عندنا تبدأ من الإثنين، وقد لا تنتهي عندها، فكلمة برلمان لم تعرف التثنية إلا عندنا، أما عن فكرة الحكومتين، وفي نفس الأرض، فقد سبقنا بها الفلسطينيون. مغالطة الأرقام ليست جديدة، وليست وليدة الظرف الراهن، بل هي قديمة قدم المقولة التي كنا نهتف بها صغاراً: “شعبٌ واحد لا شعبين”.
لكن الجديد في الأمر هو الهوس والوله بالتثنية عند شعبي ليبيا، فمن تثنية البرلمان، وتثنية الحكومة، وتثنية الجيش، والموارد، والولاءات، والفتاوى، والشعارات، حتى وصل الأمر إلى تثنية هلال رمضان وهلال شوال. لأنه لم يرق للثنائيين أن نتوحد حتى في الشعائر الدينية!. تلك الإزدواجية البغيضة إنما تنبع من ثقافة بائسة يابسة يائسة، لا تعرف إلا الضد والمع، العدو والصديق، المحارب والحليف، المعين والمعيق، ولا وجود فيها للمحايد، ولا احترام فيها للمخالف، ولا اعتبار فيها للرأي الآخر.
تلك الذهنية القبلية التي تؤله الانقسام والتشظي، وتقدس التقسيم والتجزئة، لتحول كل ما حولها إلى قبيلة تنقسم إلى عشائر، والعشائر إلى بطون، والبطون إلى أفخاذ، والأفخاذ تمشي بقاعدة (أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على العدو).
ومع ذلك فالانقسام لا يبدأ من هنا.. بل يبدأ من أول نقطة، في أول حرف، في أول سطر، في أول صفحة. يبدأ من أول نطفة في أول علقة، في أول مضغة، في أول جنين. الانقسام يبدأ من نفس الذات الواحدة، ومن ذات النفس الواحدة، ليتحول الكيان الواحد إلى ذات ممسوخة، ونفس مشوهة، وشخصية انفصامية. ذلك الانفصام المريع الذي يجعل من السياسي، يسبُّ الفساد، وهو راس المفسدين، ويلعن الخيانة، وهو سيد الخائنين، ويتلفع بعباءة الوطنية، وهو أعدى أعداء الوطن!. هو ذات الانفصام، الذي يجعل من الإعلامي يُهاجم الفريق الخصم، فإذا انتقل إلى قناة الخصم، ارتدَّ على فريقه الذي كان يواليه بالسبِّ والشتائم، واللعن والتخوين!.
هو نفس الانفصام، الذي يجعل من الطبيب يعاملك باستعلاء وعجرفة، في المستشفى العام، فإذا جئته في عيادته الخاصة، انفرجت أساريره، وهش وبش، وفرح وانتعش، حتى لتكاد تسأل نفسك: أهو هو، أم شُبه لي؟!. وهو عين الانفصام الذي يجعل من المواطن يتحدث عن الوطنية بكل فصاحة وبيان، وطلاقة لسان، ثم لا يتورع عن سرقة الكهرباء، والتلاعب بالأسعار، ومخالفة القوانين!.
إنها الشيزوفرينيا في أجلى تجلياتها، وفي أوضح صورها، الشيزوفرينيا التي تجعل من الشخص منقسماً على ذاته، أو متلبساً بتوأم آخر، لكل منهما ميوله ورغباته، يتنازعان ذاتاً واحدة، بل يتبادلان الأدوار عليها، حسب الظرف والزمان، والبيئة والمكان!. من هنا.. من ذواتنا، ومن أنفسنا؛ يبدأ الانقسام، وتبدأ الثنائية، والازدواجية، التي لا تقف عند حد، ولا يردها سد، حتى لو بقيت حبة تراب لتقاتلنا على تقسيمها!.