كتبها :: عمر عبد الدائم
كان يتمايل ، ولولا وجود رأسه بين كتفيه لأعتقدت أنّما هي ملابس تتحرك ، يسند جسده النّحيل على الحائط حيناً ، وأحياناً يُجهده الوقوف فيجلس في أي مكان يصله ، على طول ممرّ العيادة لم يستطع المشي أكثر من أربع خطواتٍ مُتّصلة ، خرجت الممرضة من غرفة الطبيب الذي كان الحاج “مجاهد” عنده ، أسنَدَتْهُ وهي تقول له
ــ لا يمكن أن تبقى هكذا ، ضغطُ دمك غير طبيعي على الإطلاق ، يجب أن تذهب فوراً للمستشفى المركزي كما أخبرك الطبيب قبل لحظات ….
لم يُجِبْ ، وظلّ مستنداً على ذراع الممرضة التي أوصلتهُ لكرسي الإنتظار حيث كنتُ جالساً ، حينها قرّرتُ أن ألغي ما جاء بي للعيادة وأن أتولّى أمر العودة به إلى بيته ، ومن ثم أذهب إلى عملي فالساعة لم تتجاوز بعد الثامنة والنصف صباحاً .
ــ هيّا خليني أنرّوح بيك يا حاج ، طلبتُ منه ذلك و دونما انتظارٍ للإجابة ساعدتُه في النهوض في حين كان هو مُستسلماً لكلّ ما قلتُه له .
أركبتُهُ السيارة وأنا أسأله هل بيته في نفس الحي ، فأجاب بالإيجاب ، ادرتُ السيارة عندما تمتم بكلمات عرفتُ من خلالها ناحية بيته ،
ــ سمعتُ الممرضة تقول أن ضغط دمك لا يتعدّى 80 على 40 وقالت هذا يعني هبوط حاد ، فكيف جئت هنا وحدك؟
ــ إييه .. خلّيها في سرّك ..
أجاب ببطء
ــ خير يا حاج بالك نقدر نساعدك؟
ــ بالله فاش بتساعدني ، الهمّ من كل تركينه ، الولد الوحيد اللي قاعد معايا ما يروّح لعند الفجر .
ــ خيره ؟ يشتغل مُناوب؟
ــ مُناوب في الحشيش والمخذرات ــ حاشاك ــ من أمس قلت له نبي المستشفى ما ريته منه .
ــ لا حول ولا قوة إلا بالله .. وخيرهم باقي الأولاد وين ؟
ــ واحد محبوس له أكثر من سنة ما نندروا عليه حي وإلا ميت ، والثاني هارب برّا ، والمشكلة أنّ البيت اللي ساكنين فيه باعه والمشتري يهدد فينا كل يوم يبينا نطلعوا .
ــ يعني لم تذهب للطبيب إطلاقاً ؟
ــ كنتُ من يومين في المستشفى العام ، وكانت هناك اعتصامات ، وأسلحة ، و فوضى ، كل شيء كان فيه .. إلا الأطباء والممرضات و وسائل العلاج … الحمد لله على كل حال .
كان بين الفينة والأخرى يُشير بإصبعه يميناً و يساراً لتحديد مكان بيته ، و فجأةً قال :
ــ خلاص خلاص هنا .. هذا هو البيت .
فتحتُ له باب السيارة ، أنزلتُهُ ، أوصلتُهُ وهو مستنداً إليّ حتى باب بيته ، تمتم بكلمات شكر ، ودّعته ، وانطلقتُ إلى عملي وطوال الطريق كنتُ أحدّثُ نفسي عن الحاج “مجاهد” وما وصل إليه من بؤس ، بعضُهُ موروثٌ وبعضُهُ مُكتَسَب .
حاولتُ أن أعدّد همومه ، فلم استطع ، فقد كانت همومه بحجم الوطن الذي يعيش فيه .
عصراً ..
وأنا عائدٌ من عملي قادتني طريقي ــ صدفةً ــ للشارع الذي يسكنه الحاج “مجاهد” ، فرأيتُ بعض الشباب يقومومن بتركيب خيمة من إطارٍ حديدي ، وبعض الرجال جلوساً وأخرون واقفون ، وجَلَبة هنا وهناك ،أدرتُ سيارتي باتجاههم ، و حين وصلت سألتُ أول رجل قابلني عن هذه الحركة الإستثنائية في الشارع ، فأجاب :
ــ الحاج مجاهد عطاك عُمره ..
سَرَتْ قشعريرةٌ غريبة في كامل جسمي ، وأحسستُ أنّي أعرف هذا الأسم منذ دهور ، حاولتُ أن أبدو مُتماسكاً وأنا أنطق بالشهادة :
ــ لا إله إلا الله .. خيره؟ حادث وإلا مريض؟
ــ لا والله ، أهله في البيت قالوا .. لا بيه .. لا عليه .. ناضوا الصبح لقيوه متوفي في فراشه .
ــ لا بيه .. لا عليه ، أدرتُ سيارتي وأنا أتمتم بهذه الكلمة الجوفاء الباردة ، كبرودة حياتنا ، و لسان حالي يقول ، إنّني أدرى النّاس بما كان به .. وعليه الحاج “مجاهد” ، فما كان به وعليه كفيلٌ بأن يقتل شعباً بكامله .
**