جميلة فضل
مهما توالت السّنون وتناثرت أوراق خريفنا يبقى الطّفل داخل طيّاتنا مختبئا ومهما شرخت جدران الذاكرة فطين الحنين إلى ذكريات الطفولة يرمّمها أحيانا فنحنّ إلى مئزر وردي أو أزرق إلى محفظة زاهية الألوان إلى دوائر علكة ننفخها في الهواء إلى قطعة ثلج نسرقها خلسة إلى قهقهات مسترسلة وأحيانا دون سبب إلى جري وراء رفيق إلى …… ويتجمّع سرب عصافير بأجنحة ورديّة وزرقاء يرفرف في ساحة خضراء .. بنفوس نقيّة وقلوب طاهرة .. ببراءة على وجوههم ظاهرة .. ثغور باسمة مغامرة .. ومناقشات حادّة مثمرة .. وإذا التفت النّسر إلى الأمام ترى مراكب ورقيّة طائرة تمخر عباب القسم ساخرة من التّاريخ .. من الجغرافيا .. من شعراء السنين الغابرة ..من جميل .. وعنترة .. وتراهم في قاعة العلوم على شكل دائرة .. يتهامسون .. الضفدعة لها عيون جاحظة .. لحم الأرنب يصلح لمائدة فاخرة .. والدجاجة تنتقل بين أيديهم سافرة .. جراحون في المختبر يجرون عمليّات خاسرة .. وفي قاعة التصوير يطالب أحدهم برسم جمل يرسم خافرة .. يخوض على متنها حربا مع أبطال العصور الغابرة ..
هم .. جيل الغد .. فلذات أكبادنا الغالية .. وأسعد ساعات يومي هي التي أكون فيها بين تلاميذي الأعزاء ولكن ما كان يخيفني ويقلقني هو فترات الفروض التّأليفية و لم يكن يخيفني أنّني كسولة أو متقاعسة في الحراسة ولكن ما كان يخيفني حقّا هو مادّة واحدة لا تتغيّر هي مادة الرياضيّات مادة يكرهها كل التّلاميذ كما كرهتها من قبل وتبدو للجميع كالكابوس المخيف وفي أغلب الأحيان تراهم يستعملون الغش فتضطرّ الإدارة أن تضاعف عدد الأساتذة من جميع الاختصاصات للحراسة ..
وفي كل فترة كانت تعترضني مشكلة هي كيف أتخلّص من الدقائق التي أقف فيها أمام تلميذ غشّ … دفنوا رؤوسهم في الأوراق وساد السّكون القسم إلاّ من صرير أقلام انسابت على أوراق بيضاء الأصابع تحكّ الشّعر لكن ملكة الدماغ تحثّ على تحريك الأصابع فتلهث بسرعة لتملأ الصّفحات سطورا وأرقاما خشية انتهاء الوقت المحدد وأنا مشدودة بين هذا وذاك أراقب كلّ حركة في جولات دوريّة تشمل كل القسم بالتفاتات غير منتظمة آلمت رقبتي ، لاحظت أنّ ألفة تلك الفتاة الجميلة الرّصينة مرتبكة وعيناها تسرقان النّظر إلى محمد .. لا يمكن أن تغشّ وهي ألمع تلميذة في الثالثة أ واستأنفت جولاتي ولكن هو أيضا يتململ مبتسما تارة ومضطربا تارة أخرى والغريب أنّني لم أر الأيدي إلاّ منشغلة بالكتابة !..
حاولت أن أغضّ النّظر عنهما حاولت أن أبتعد أن أتجوّل في القسم بعيدا عنهما هي أيضا تتململ وفجأة رأيت ورقة سرّبها محمد خلسة إلى ألفة من تحت الطاولة أسرعت نحوهما مغتاظة لأضبطهما متلبّسين رغم ما بي من مرارة وحين اقتربت من ألفة وطلبت منها الورقة احمرّت وجنتاها وارتعشت يداها وانهمرت دموعها على خدّيها وأما محمد فكان يرتعد كورقة هربت بها الرياح من الساحة وتصاعد الدم إلى وجهه الجميل يغطّيه بحمرة الخجل ورفع يده في حركة يائسة إلى وجهه التقطت الورقة من يد ألفة وكأنّني أخذت روحها معها وأنا حانقة غاضبة أكظم عبارات توبيخ لسلامة هدوء القسم فتحت الورقة وحسبت أن أجد حلّ مشكل من مشاكل الاختبار !..
وجدت مشكلا لا حلّ له وجدت سطرا وحيدا ورديّا وسط قلب اخترقه سهم سنتقابل في حديقة {دحدح } على الساعة الثالثة فعلا إنّه مشكل أصعب من كل مشاكل الرياضيات لم أضحك لفرط ذهولي ودهشتي أحسست باستغراب مدهش وحيرة ووقفت مرتبكة محرجة أحسست بالدم يتدفق في وجهي أحسست بشيء عذب يتسلّل إلى صدري ورجعت بي الذاكرة إلى الماضي يوم كنت تلميذة حين أمسك زميلي بيدي ودون مقدمات رفعها إلى فمه وغمرها بقبلة سريعة مجنونة وهو ينطق اسمي بصوت مرتعش جمعت أدواتي وانتقلت من مكاني إلى آخر القسم وجسدي يرتعش وأنا سابحة في بحر الذكريات .. إذ بتلميذة تناولني ورقتها الوقت انتهى ..
وهكذا تمر الأيام تموت ورود وتسقط بذيرات فتنبت وينمو الحب شجيرات ويترعرع في زمن آت ويتعذب كل عاشق ويشعر بحرقة الحب وكل شهاب يصير نيزكا باردا ويرث كل عاشق هذه اللعنة .