كتبها/ امحمّد الهنشيري
أطلعت على هذه الرواية وهي ماتزال مخطوطة في أكف شاعرنا الكبير عمر عبدالدائم ولم يلق بها للمطابع بعد، وكان قد اختار لها عنوانا (لها ظلال أخرى) وقد كانت لي تساؤلات كثيرة تتعلق بالعنوان لايمكن الفكاك منها تنثال انثيالاً وتزداد كلما اقتربت مما يكتبه شاعر في حجم سيد الدهشات. أول هذه الـ”ماذات” كانت في ما يكتنف عنوانها الأول من غرابة وماعساه أن يلقي هو بدوره من ظلال دلالية كثيرة، إلا أنّ الظلال المتعددة هي أيضا متعلقة بـ (لها) التي تبعث على التساؤل من اللحظة الاولى بكثير من الاستفهامات أقربها سؤالنا: مَن أو ما هذه التي لها ظلال ناهيك عما لها من ظلال؟ ومَن ستظله؟ ومَن سيبقى لتظلله بظلالها؟ وهل يمتد الظل ليضم آخرين؟
“عمر آخر”، وهو العنوان الذي فاجأتنا به المطابع هو أيضا يتدفق دلالات ويثير تساؤلات متعددة أبرزها ما يتبادر إلى الذهن وهو هل “عمر” الزمن المقاس بعدد السنين ؟ أم هو “عمر” عبد الدائم الذي عرفته الأصبوحات والامسيات شاعراً مُدهِشا وهذا “عمر” الآخر روائياً مبدعا؟ ومع أن هذا الإشكال الدلالي قد حسمه التشكيل اللُغوي والصوتي للفظ، إلا أننا مازال ليلنا التساؤلي طفلا يحبو ويلقي علي العنوان دهشات حتى الإنشداه لعلّ القاريء الحصيف يجد لها إجابات في المتن الحكائي للرواية أو المبنى الروائي للسارد البطل المشارك لشخصيات الرواية.
قُسِّمت الرواية إلى عشرة فصول متتالية: الغريب/ الداهية/ النادلة/ العشاء الاخير/ الفقد/ القافلة/ آخاديد الذاكرة/ العجاج/ المهاجر/ M&M
وكل هذه الفصول تتدفق معاني ودلالات للمراحل التي تمر بها الشخصية الرئيسية ورؤيتها وطبيعتها ووصف ما تعتمله داخلها من ندوب وأخاديد وما مر بها من مراحل واحداث ناهيك عن كونها تقنية ماهرة من المؤلف في تبديد الرتابة والملل وخلقها كأنها استراحة للقاريء يستعيد أنفاسه خلالها ليواصل رحلته مع أحداثها مع الفصل الذي يليه.
تبدأ الرواية من نهاية الأحداث وبتقنية الفلاش باك الاسترجاعية يتولى (أيوب) الشخصية المحورية والأساسية الذي يشكل الصوت الخفي والسارد الرئيس والراوي بلسان المتكلم ( وكأنه الكاتب) يتولى حبك أحداثها وتسلسلها وترابطها فتتجلى عبقرية السارد في إحالة المألوف والحدث العادي الى ثيم سردي وحبكة حكائية وإلى مفاجأت درامية ومتعة في السرد تشد القارئ شدًّا لطيفا لا يجد معه فكاكا إلى آخر حرف. وهذا ما كان معي كمتلقي جاءت بي السانحة الرائعة للاطلاع على هذه الرواية.
تتنوع شخصيات الرواية والتي يقترب عددها من العشرين شخصية حسب تنوع المكان والزمان وحسب أهمية الحدث، والتي أجاد السارد (أيوب) في إحيائها، فوصفها وحاورها وكشف عن طبيعتها ورؤيتها ورؤاها، ووزع أدوارها بدقة متناهية وانطقها فقالت حِكما، وأدار معها حوارات شيقات.
أول شخصيات الرواية كان (ميروسلاف) والذي يطلِق عليه اختصارا (ميرو) وهو أب حبيبته الفاتنة وهو الداهية الذي يخطط للمستقبل ويستعد بذكاء ودهاء لمواجتهه ( فقد تنبأ بهول الحرب وغادر قبلها). ثم تأتي (سلافيتسا ايفانوفيتش) والتي رضعت اليتم والعذاب بسبب الحرب) زوجة الداهية ميرو، ثم تأتي (ماريا) أبنة ميرو الوحيدة وحبيبة أيوب وملهمته شِعرا ونثرا، ومتيمته حبًّا وهياما. ثم يأتي (عباس بن جعفر المرتضي) العراقي المحب، العازف الفنان وهو صديق وزميل ايوب في الكلية العسكرية وصاحب الفولفو 760 والذي لخص فترة تدريبه في الكلية بأنها (لاتعدو كونها تسمينا للخراف قبل ذبحها) ثم ( ليليانا) حبيبة عباس والتي ماتت برصاص قناص وهي تحاول إنقاذ إمراة جارة لها ثم نجد (ساشا) ابنة عباس وليليانا (النادلة الشقراء ذات العينين السوداوين) فقد جمعت جمال الشرق والغرب، ثم يأتي العم (خفيرقلعة سبها) ثم النقيب ( قائد الرتل العسكري المتجه إلى تشاد) ثم (خليل النالوتي) سائق التيوتا نحو فايا لارجو، ثم رئيس العرفاء ثم يأتي المقدم النفوسي ( حميدي) الذي لخص تعليماته لأيوب قائلاً: (لاحلول لديك يا أيوب في هذه الاحتمالات إلا أن تكون قاتلاً أو مقتولاً.. اقتل كل ما تعتقد أنه سيشكل خطراً عليك ولو بعد حين) ثم يأتي (موسى) الراعي التشادي الفيلسوف والمعلم الصامت الذي أنقذ أيوب من الموت عطشاً والذي قال لايوب: (أنا موسى وانت أيوب، أسماؤنا أسماء أنبياء فلماذا نقتتل؟) وتتواصل الشخصيات لنصل إلى حسن عبدالله الملقب بـ (شَو) والمكلف بحراسة أيوب في المعتقل التشادي) ثم النقيب (اللاشي) الذي كان يتبع حركة فرولينا المنقسمة وهو معارض لكل من “حسين حبري” الموالي لفرنسا و”كوكوني وداي” الموالي لليبيا والمستعد لتسليم الأسير أيوب لمن يدفع أكثر) ثم تأتي أسماء معتقلين ليبيين (نوري من مدينة الزاوية وزميله وجاره عزالدين) ثم الجار في سبها (الحاج سليمان).
تدور أحداث الرواية في أماكن متعددة حسب المدن التي عاش بها البطل أيوب فتجدها
في يوغسلافيا: سيراييفو/ موستار/ دوبوي/ ليوبليانا/ زغرب/ بلغراد/ بانيالوكا
وفي ليبيا: سبها/ غدوة/ تراغن/ أم الارانب/ حميرة/ القطرون
وفي تشاد: اوزو/الويغ/ ازوار/ فايالارجو/ وادي الدوم/ انجامينا
كما ذُكِرت في الرواية بعض المدن والأحياء والأماكن عن طريق الرسائل التي كان يرسلها عباس من العراق (كبغداد والديوانية) والحي الذي يقطنه عباس(التعيس) والحسينية وكذلك دولة الكويت بعد اجتياحها في شهر8/1990 ومن ثم تحريرها في شهر 2/ 1991.
M&M” أيضا هذا المكان الذي أضفى عليه أيوب أهمية كبيرة وهو الفندق الذي أقام فيه وفي الغرفة 313 (والرقم 13 له دلالة تشاؤمية لدى المسيحيين) إلا أن أيوب وماريا كانا قد تناقشا في أمر تشاؤمية الرقم، وتأتي أغنية لمطربة من يوغسلافيا تؤكد ترحيبها بهذا الرقم. وفي تقنية سردية متقنة يختم السارد بما يؤكد استحالة لقاء أيوب وماريا مرة ثانية بعد أن كانا قاب قوسين من اللقاء غير أن مجرى الاحداث يأبى إلا أن يغادر أيوب الفندق (إم آند إم) بعد تم حجزها ( اي الغرفة 313) للتو غرفة لمارية للإقامة فيها، والفندق ما هو (حسب تسلسل الأحداث) إلا فندقا من سلسلة فنادق تحمل الحرفين الأولين من أسماء ماريا وميرو.
استخدم الكاتب تقنية الرسائل وتقنية الحوار وهي لا شك تقنية توقف سردي يتاح للمتلقي أن يستريح خلالها ليتمكن من الاطلاع مباشرة على أفكار وطبيعة وحياة ونفسيات الشخصيات المتراسلة والمتحاورة وهي أيضا محطات تريح القارئ وتخرجه من رتابة الحكائية السردية عن الشخصيات إلى تواجد الشخصية المعبرة عن نفسها وهي صنعة متينة ولا شك تُظهِر مهارة النّاص في المقدرة على التنقل بين التقنيات السردية وصولا بالقارئ إلى التنوع والوضوح عبر حبكة درامية سردية متقنة.
تتجلى رسالة الراوي ورؤاه ورؤيته في ذلك الحب والشغف بالحياة المعجون بالحرب في تناوبية عجيبة يضفر فيها السارد الحب والحرب كما تضفر ليليانا ضفائر ساشا الشقراء، كما نرى اسقاطات كثيرة وإشارات عديدة للحروب والقتل من الحرب العالمية الثانية الى الفترة الزمنية التي تشير اليها الرواية خلال سنوات الثمانينات وبداية التسعينيات في يوغسلافيا والعراق والكويت وتشاد وليبيا حربا عمياء تتنوع من عالمية الى بينية الى جوارية الى أهلية بين الأخ وأخيه والجار وجاره والمدينة والمدينة في نفي عجيب للإنسانية وقيمها العليا. الأمر الذي ضاعف وعمّق واجّج غربة ( أيوب) التي أخذت اشكال غربات متعددة: غربة وطن/ غربة سلاح/ غربة رفاق/ غربة فهم/ غربة معتقل/غربة روح.
يمكننا ان نخلص إلى أن الرواية جديرة بأن تقرأ، بها الكثير من التناص مع الكثير من السرديات المشابهة للأحداث المماثلة، ولا شكّ أنّ المجايلين لأيوب سيجدون فيها الكثير مما يعبر عنهم وعما عاشوه وربما شاهدوه بأم أعينهم.
أخيراً أقول، إذا كانت رواية “البؤساء” لهيجو تصور (بؤس الشعوب) الناتج عن الفقر والظلم الممارس من أجهزة القمع البوليسي الذي لا يرحم، فإن هذه الرواية “عمرٌ آخر” تصور(قهر الشعوب) بالحروب وجرّها عنوةً دون هوادة ولا هدف رغم أنها تهتف كلها في سفهٍ وبَلَهٍ كما هتف الشعب اليوغسلافي لأكثر من ثلاثين سنة بعد الحرب العظمى( عزيزي تيتو نحن عاهدناك بأننا عن طريقك لن نحيد).