بقلم :: د.عارف التير Email : arefteer@yahoo.com
أمام الجمود السياسي الذي نراه في حل الأزمة الليبية، وعدم تقديم الأطراف لتنازلات قادرة على الخروج من عنق الزجاجة، وتعثر جهود لجنتي مجلس النواب والدولة في تحقيق أي نتائج تذكر، فإن الجميع يتساءل ما هو المخرج من هذا النفق؟، وما هي اقصر الطرق وأقل التكاليف وأسرع الخطوات التي تمكنا من اجتياز هذه الأزمة ؟ هذه الإشكالية هي محور هذه الورقة التي سأحاول من خلالها استعراض أهم الفرضيات التي يمكن أن تجيب على هذا التساؤل.
تبرز رهانات متعددة وسيناريوهات عديدة للازمة الليبية والتي أهمها:
- طرح الدستور للاستفتاء وانتهاء المراحل الانتقالية.
- التوجه لانتخابات رئاسية وبرلمانية .
- استخدام القوة العسكرية لحسم الصراع .
- استمرار المراحل الانتقالية .
يجب أن نعلم إن الرهان على أي من الخيارات السابقة لن يكون سهل وميسر في ضل هذا الانقسام والتشرذم الذي تعدد وتنوع وامتد أفقياً ورئيساً (مناطقياً – جهوريا – قبلياً – عقائدياً – مؤسساتياً – وحتى دينياً )، وللأسف أصبح لهذه الانقسامات امتدادات ومصادر تمويل وقنوات دعم خارجية ومؤسسات إعلامية، تحاول ليس بعث رسالة واضحة وصادقة ومحايدة وإنما إعلام موجه بطريقة أحياناً سمجة وغير مهنية ولا احترافية مما يكشف عورات هذا الدعم ويظهره على حقيقية.
أولاً : طرح الدستور للاستفتاء وانتهاء المراحل الانتقالية:
لقد ثار جدل كبير حول المسودة التي قدمتها هيئة صياغة الدستور لعرضها للاستفتاء بين مؤيد ومعارض ومنتقد ورافض، ووصل الأمر إلى الالتجاء للقضاء للطعن في المسارات التي تم بموجبها الموافقة عليها، بل هناك من رأى في إقرارها نكبة على مستقبل ليبيا.
من القواعد المسلم بها في الفقه الدستوري إن الدستور مهما بلغت دقة صياغة قواعده وعملية كتابته ورصانته اللغوية والعلمية فلن يسلم من النقد والانتقاد، ولن يكون كاملاً مكملاً يلبي طموحات جميع فئات الشعب، فقواعده القانونية هي انعكاس للبيئة التي كتب فيها وتفاعل معها وتأثر بها.
ورغم أن صياغة الدستور الليبي أخذت مساحة ومسافة من الوقت أكثر وأطول من المتوقع، إلا انه يبقى جهد يشكر عليه جميع أعضاء الهيئة خاصة في هذا التوقيت وهذه الظروف العصيبة، والأمر الذي لا جدال عليه يبقى إن ما توصلت إليه لجنة صياغته هي الوثيقة الأكثر نضجاً، والاهم اعتباراً، والأقرب إلى التطبيق والإقرار، لأنها احتوت وتضمنت جزء كبير من اختلافات الليبيين، ولهذا تحصل مشروع الدستور على 78 نقطة من مجموع 100نقطة وفق المعايرة التي أجراها مركز دراسات القانون والمجتمع بجامعة بنغازي [1].
لا يختلف دراسي الأنظمة السياسية وعلم الاجتماع السياسي على انه أثناء المراحل الانتقالية فإن قدرة النخبة على الوعي بخطورة المرحلة ودقتها وحساسيتها هو ما يحدد مدى استمراريتها من عدمه، فكلما تم التعجيل بطرح قواعد قانونية تنظم صراع وتنافس الأطراف على ممارسة السلطة كلما عجل هذا بخروج الدولة من أنفاق ومتاهات كثيرة والتي أسوئها الحرب الأهلية.
إن عملية انهيار النظام السياسي داخل المجتمع، وما يصاحبها من تغيير في نظرة الأفراد اتجاه السلطة والحرية والحكم ،ومحاولة التوجه نحو قيم الديمقراطية، هذه مجتمعة تحتاج إلى روافع قادرة على حملها من السقوط في براثن الفوضى، وأهمها الإطار القانوني الدستوري، ومدى توفر تنمية وتحديث سياسي يمكنه مجاراة التغيير، وبصفة عامة نمط الثقافة السياسية السائد .
علينا الاعتراف إن الوعاء الثقافي السياسي للمجتمع الليبي غير قادر على تلبية متطلبات حركة التغيير التي تتم ألان، وبينت سنوات ما بعد 2011 انه وعاء مليء بالثقوب، ولا يستطيع حمل مقومات الثقافة السياسية البَنَّاءة التي تحمل في جوهرها قيم الديمقراطية وبناء الدولة، بل الأمر الأخطر أن هذه الروافع التي يجب أن تصاحب عملية التغيير كانت محطمة وغير موجودة، وبالتالي انزلق المجتمع في متاهات الاحتراب والاقتتال والتنازع على السلطة، وعدم تقبل الأخر وسيطرة الأنا المدمرة على تصرفات المجتمع أفراداً وجماعات [2]. .
لقد عبر المفكر فرانسيس فوكوياما في كتابه “أميركا على مفترق طرق الديمقراطية السلطة وميراث المحافظين “عن المسار الديمقراطي بقوله : إنه محصلة مسار طويل في أبعاده التاريخية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وهي مسألة ليست بسيطة ولا سهلة، وان أي نظام ديمقراطي لابد له من مرتكزات ثلاث رئيسية وهما دولة قوية تتمتع بالهيبة اللازمة، ووجود سلطة عليا، وسيادة القانون، ويقول إذا أردنا أن نفهم كيف نشأت هذه المرتكزات الثلاث فعندها علينا أن نفهم ما يفصل بين الصومال والدينمارك.[3]
ثانياً : التوجه لانتخابات رئاسية وبرلمانية:
كانت أولى الخطوات الفعلية للسيد غسان سلامة عقد اجتماع للجنتي مجلس النواب ومجلس الدولة في لجنة واحدة سميت لجنة الحوار، عقدت هذه اللجنة جلستين وتميزت تصريحات الأطراف بالتفاؤل المفرط، ولكن بمجرد أن بدأت الاجتماعات وطرح وجهات النظر ومناقشة أوجه القضايا حتى تبين إن المسافة بين الأطراف بعيدة وكبيرة وبالتالي لم تصل هذه اللجنة إلى أي نتائج يمكنها تحريك الواقع، وقد بين رئيس لجنة الحوار بمجلس النواب الدكتور عبد السلام انصية بعض النقاط الهامة حول طبيعة الخلاف بين مجلسي النواب والدولة وطلب من بعض أعضاء مجلس الدولة ضرورة تحكيم العقل والنظر لحالة البلاد السيئة معيشياً واقتصادياً وأكد على ضرورة استعادة الدولة لهيبتها ومقوماتها حتى نخرج من هذا المنزلق[4]، وسارع عضو المجلس الأعلى للدولة ورئيس لجنة تعديلات الاتفاق السياسي، السيد موسى فرج بتبيان إن مجلس الدولة لم يطالب بأي تعديلات [5]، هذه التصريحات المتناقضة تبين إن اللجنتين لم تستطيعا الوصول إلي توافق بخصوص القضايا محل الخلاف.[6]
وفي خطوة تالية قدم السيد غسان سلامة مبادرة [7]ركزت في مجملها على توحيد السلطة التنفيذية كسلطة واحدة في البلاد من خلال إشراك مجلسي النواب والدولة في اختيار رئيس المجلس الرئاسي ونائبيه، وافق مجلس النواب على هذه المبادرة بينما أبدى مجلس الدولة بعض التحفظات ورفض جزء منها.
بعد محاولتين للسيد غسان سلامة للدفع نحو الوصول إلى توافق بين الأطراف اكتشف عمق الخلاف ومداه وصداه على ارض الواقع، وترسخت لديه القناعة أن جوهره مركب وتكتسيه هالات كثيرة وتدخلات جمة ورغبات شخصية وقبيلة وجهويه متناقضة، فانتقل إلى هذا الرهان وهو التوجه إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية .
رحبت اغلب الأطراف بهذا المسار على الأقل ظاهرياً ( رئيسي مجلسي النواب والدولة – حكومة الوفاق والمؤقتة – المؤسسة العسكرية – مؤسسات المجتمع المدني – بعض الدول العربية والأوربية ).
برزت العديد من التساؤلات ذات الطابع القانوني حول هذا الرهان وأهمها : ما هو الأساس التشريعي الذي ستعتمد عليه هذه الانتخابات؟ وهل سيتم انتخاب مجلس تشريعي ذو غرفتين أم غرفة واحدة ؟ وهل سيتم الاقتراع لمنصب الرئيس بالانتخاب الحر المباشر أم بطريقة غير مباشرة؟ ومن سيقوم بوضع واعتماد قانون الانتخابات ؟، وهل الوضع الأمني يسمح بإجرائها في ضل وجود المليشيات المسلحة ؟والتساؤل الأهم : حول وجود ضمانات للقبول بنتيجة انتخابات سياسية في بلد ينتشر فيه السلاح خارج سيطرة الدولة، وتتحكم في العديد من شئونه ميليشيات كما حصل في سنة 2014[8].
هناك الكثيرون ومن ضمنهم أعضاء بهيئة صياغة الدستور يرون أن الذهاب إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية قبل وجود أرضية تشريعية سيكون خطير جداً وسيدخلنا في دوامة مرحلة انتقالية أخرى لا نعرف متى تنتهي، وان الأهم والأساس هو التوجه للاستفتاء على الدستور بما فيه من عيوب لنؤسس لقاعدة قانونية صلبة صحيحة نحتكم إليها جميعاَ ثم نتجه للانتخابات الرئاسية والبرلمانية [9].
وفي خطوة أخرى طرح السيد غسان سلامة فكرة المؤتمر الجامع لجميع الليبيين بكل اختلافاتهم وتوجهاتهم للمشاركة في رسم المشهد القادم، ورغم الفكرة البراقة للطرح إلا أن الأمر ليس بالسهولة التي يتصورها وهناك أسئلة يجب عليه الإجابة عليها قبل انعقاد هذا المؤتمر والتي أهمها كيف سيتم اختيار أعضاء هذا المؤتمر؟ وما هي قوة الالتزام والإلزام التي يملكها ؟وما هي القضايا التي سيطرحها وأولياتها[10].
ثالثاً : استخدام القوة العسكرية لحسم الصراع :
بعد هذه المسيرة من الحروب والنزاعات القبلية والجهوية التي جرت بعد سنة 2011 ترسخت قناعة ولو جزئية لدى الكثيرين مفادها : ما هي الجدوى التي تحققت من كل هذه الحروب؟ وأصبح هناك وعي جمعي يحاول أن يطفو إلى السطح يقول : إن خيار الحرب والنزاع والاقتتال لم يعد ذاك الخيار الذي يمكن أن نعول عليه في إنهاء الأزمة في ليبيا، بل الأمر قد يدخلنا في دوامات عنف أخرى اشد إيلاماً وأكثر شمولاً، وأصبح هذا العقل متعلق بأولويات المعيشة اليومية، وتوافق وتنازل الأطراف وتغليب مصلحة الوطن والحوار والحلول السلمية ستكون تكلفتها اقل ونتائجها وأثارها أفضل[11].
ورغم وجود هذا الوعي الجمعي بنبذ الحرب والاتجاه نحو تقديم تنازلات متبادلة إلا أن مسيرته تسير ببطء شديد جداً، فالأطراف لن تقبل التنازل بسهول ويسر، ولا تريد التخلى عن أي مكاسب حققتها طيلة السنوات السابقة، ولكن الأوضاع الاقتصادية السيئة بدأت تحفر في تعنت هذه الأطراف وتحاول إعادة رسم قناعاتهم وتوجهاتهم وفق الاتجاه نحو خيارات سلمية .
لقد تراجع هذا الخيار بشكل واضح من خلال اللقاءات التي تمت بين المشير خليفة حفتر والسيد فائز السراج في باريس ثم في ابوظبي، ومحاولة الأطراف الدولية والعربية إيجاد مساحة للتقارب حول بعض القضايا، كما تقلص هذا الرهان من خلال اللقاء الذي عقده ضباط الجيش الليبي من الطرفين في القاهرة في نوفمبر 2017 وذلك في محالة لتوحيد المؤسسة العسكرية[12].
إن خيار الحرب والاحتراب مهما كانت نتائجه وانتصاراته فهو خيار مكلف جداً على مستوى الحاضر والمستقبل، وعلى كافة الأصعدة اجتماعياً وسياسياً وتنموياً واقتصادياً، ولهذا اعتقد مهما كانت درجة تنازل الأطراف لبعضها للحفاظ على الحد الأدنى من التوافق سيكون الأمر أفضل للمستقبل وأسهل في معالجة الاختلافات، إن أهم ما يميز المشهد العام لسنة 2018 تراجع احتمالات الحسم العسكري، في حين تتعاظم، نظرا لأسباب متعددة، فرص التسوية السياسية، وسيحاول خلاله كل طرف من أطراف الصراع تأمين أكبر كم ممكن من المكاسب السياسية في سياق التفاوض حول التسوية، ومن المتوقع أن تظل الدول الفاعلة على المستويين الإقليمي والدولي في سعيها لتمكين حلفائها في الداخل الليبي، ولكن لن يخرج هذا التمكين عن سياق الاتفاق السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة[13].
رابعاً:استمرار المراحل الانتقالية :
ليس هناك شك أن هناك الكثيرون من المستفيدين من المراحل الانتقالية سواء أفراد وجماعات وحتى بعض الدول، فاغلب دول الجوار دأبت على الاستفادة من الأزمات التي تمر بها ليبيا منذ تسعينات القرن الماضي عندما فرض على ليبيا حصار جوي وتقني بسبب أحداث قضية لوكربي(تونس – مصر).
بعد إعلان نتائج انتخابات سنة 2012 وتَسَلَّم المؤتمر الوطني السلطة من المجلس الانتقالي شهدت البلاد نوعاً من الاستقرار السياسي والاقتصادي والمالي وكان المسار السياسي في عمومه يسير بوتيرة سلمية مدنية، وكان الصراع والتنافس بين حزبي العدالة والبناء وتحالف القوى الوطنية والأحزاب الأخرى لم يخرج عن الإطار المعهود في المنافسات السياسية إلا ببعض القفزات الغير محسوبة والتي أهمها كان إقرار قانون العزل السياسي، وإزاحة رئيس الوزراء السيد علي زيدان ب 46 صوت فقط.
نتيجة للحراك الشعبي الذي رفع شعار “لا للتمديد” والذي كان هدفه ضرورة التقيد بالإعلان الدستوري وإنهاء عمل المؤتمر الوطني استجاب المؤتمر الوطني لمطالب هذا الحراك وشكل لجنة عرفت بلجنة فبراير برئاسة الدكتور الكوني عبودة أستاذ القانون الدستوري بالجامعات الليبية ،ونخبة من أساتذة القانون منهم المحامية عزة المقهور والدكتور منصور ميلاد يونس وناشطين إعلاميين، من اجل وضع تصور للخروج من هذا الاختناق، واستطاعت هذه اللجنة أن تنهي عملها بمهنية كاملة وتامة وقدمت مقترحاتها إلى المؤتمر الوطني بتاريخ 4 مارس 2014 والتي كان أبرزها ضرورة الذهاب إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية، والاعتماد على مبدأ الفصل بين السلطات، وتحديد مواعيد ثابتة ومحددة لعملية الانتخاب، وتفصيل لصلاحيات كل من رئيس الدولة ورئيس الحكومة[14].
مع بداية الربع الأول من سنة 2014 بدأت المفوضية العليا للانتخابات في إجراء عملية الانتخاب، وأعلنت نتائجها بتاريخ 21 يوليو 2014 والتي تضمنت اختيار 188 مقعداَ من أصل 200 مقعد نص عليها قانون الانتخاب، ورغم الصعوبات التي واجهتها في أداء مهامها إلا أنها استطاعت أن تنجز عملها بكل مهنية ومسئولية وطنية، وبالرغم من حداثة المسار الديمقراطي السياسي السلمي، وسطحية الثقافة السياسة للمتعاملين معه، والخيبة من أداء المؤتمر الوطني، وضعف المشاركة في الانتخابات، وامتناع بعض المدن عن المشاركة ( نالوت – زوارة – جادو )، ولكنه استطاع هذا المسار من خلال هذه الانتخابات أن يعبر عن حقيقة توجهات واتجاهات الناخبين، وكانت النقطة الجوهرية فيه إن الاحتكاك والتنافس والصراع بين التيارات المختلفة والمناطق المتعددة والقبائل يتم في إطار ممارسة قواعد اللعبة السياسية السلمية، ولو قدر لمقترحات فبراير أن يُعمل بها فمن المؤكد إن الوضع في ليبيا ليس كما هو عليه ألان.
بعد نتائج الانتخابات حاول السيد طارق متري رئيس بعثة الأمم المتحدة في ليبيا التوفيق بين الأطراف من خلال طرحه ما عرف “بوثيقة تقاسم السلطة “والتي حاول من خلالها تعديل التوازن بين الأطراف السياسية ليس وفق الانتخابات التي تمت، ولكن وفق توزيع القوة التي تبدوا على الأرض، وللأسف وقبل إعلان نتائج الانتخابات بأسبوع واحد اندلعت عمليات ما يسمى بفجر ليبيا والتي أدت إلى دخول ليبيا في منعطف حاد وخطير حيث انقسمت مؤسسات الدولة، وغادرت البعثات الدبلوماسية، وقفلت مكاتب خطوط شركات الطيران وزاد الأمر سوء انهيار الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية وشح السيولة وافتقار الدولة إلى احتكار سلطة الجبر المادي.
كان استمرار المراحل الانتقالية صفة تميزت بها الأزمة الليبية منذ سنة 2012 وحتى ألان، ومازال الأمر مفتوح على مصرعيه لاستمرارها ، وربما اتفاق الصخيرات الذي أعلن عنه في نهاية 2015 يمثل احد حلقات هذا الاستمرار، فلم تلتزم كل الأطراف بهذا الاتفاق وأخذت تقفز قفزات سياسية لمحاولة التموضع هنا وهناك، وللأسف أن هذا الاتفاق من البداية اكتنفته العيوب والثقوب، فلا يمكن عقلاً ومنطقاٌ أن يتم إنشاء حكومة بتسع رؤوس، فأصاب مجلسه الرئاسي والذي يمثل قمة هرم سلطته الانشقاق والتصدع، وبعد مسيرة عامين على توقيعه برزت عوراته وتبين أنه يحتاج إلى تعديل.
هذه الحالة الهلامية للدولة الليبية خلقت ظروف وبيئة لبعض المستفيدين من استمرار المرحلة الانتقالية، فالمليشيات والجماعات المسلحة أصبحت تترقب وتحاول الدفع نحو عدم الإخلال بالأوضاع القائمة، واستمرار ما تكتسبه من نفوذ ومكانة ، وبالتالي تمارس هذه الجماعات ضغوطات متوازية على الكثير من الأطراف لاستمرار الوضع، والاسوء إن هذه الجماعات ستقف بقوة أمام أي توافق لا يضمن لها مراكز نفوذ في المستقبل.
الأمر الأسوأ في استمرار هذا الوضع هو تمسك وتشبث الكثيرين من هم في صدارة المشهد السياسي بمناصبهم( أعضاء المؤتمر الوطني – أعضاء مجلس النواب – رؤساء أجهزة تنفيذية وخدمية وإنتاجية – نزاعات على تولي مجالس إدارات مؤسسات مالية – قادة المليشيات المسلحة – زعماء القبائل – رؤساء حكومات سابقين )، تقودهم الأنا الشخصية والمصلحة الذاتية ( دولة الغنيمة )، خاصة وان بعضاً منهم له تأثير مباشر ورئيسي على الأحداث، ويمثل مركز نفوذ مؤثر على المسرح السياسي والعسكري والاقتصادي.
الخلاصة :
هناك بعض الحقائق علينا أن نضعها في الاعتبار :
- إن الصراع في ليبيا معقد ومركب ومتداخل ومتشابك، وتحكمه متغيرات كثير وكبير وخطير، جزء منها يتعلق بالميراث الثقافي في جانبه السياسي، وجزء يتعلق بالمصالح الشخصية والجهوية والمناطقية، وجزء بأيديولوجيات فكرية ذات توجهات دينية.
- إن الصراع السياسي مهما كان نوعه وشكله فهو شيء ايجابي وظاهرة صحيحة، وهو في حقيقته صراع على المكانة والنفوذ، وهو أزلي منذ أن وجدت الجماعات البشرية( يتجسد في قصة قابيل وهابيل عندما تقبل من احدهم القربان ولم يتقبل من الأخر ) ومنذ أن التقى الإنسان بأخيه الإنسان مكوناً مجتمع يعيش فيه ينفعل به ويتفاعل معه.
- إن الفكر السياسي الإنساني مر بالعديد من المحطات لبلورة الأفكار السياسية بداية من كتابات اليونان وحتى ألان، وإن أخر ما توصل إليه فيما يخص الصراع حول السلطة والمكانة والنفوذ هي فكرة الانتخابات عن طريق كيانات وتنظيمات حزبية، فبدل أن يكون الصراع جهوي مناطقي قبلي شخصي ديني، ينصهر في تكتلات وتجمعات سياسية منظمة لا تعتمد على شرعية الصناديق فقط ولكن على شرعية الانجاز وما ستقدمه من برامج [15].
- إن أي محاولة لا يجاد أي وسيلة أخرى غير التنظيمات السياسية والتجمعات النقابية والأحزاب للتخفيف من حدة الصراع فلن يكتب لها النجاح، ويصبح أن ما يمكن القيام بعمله ألان قد لا يمكن القيام به في فترات لاحقة، ولنا في تجربة 2012 خير شاهد، حيث كان حزب العدالة والبناء وتجمع القوى الوطنية عبارة عن مؤسسات تخفف من عملية التنافس داخل المؤتمر الوطني، فكثير من القرارات والإشكاليات حلت عبر لجان مشكلة من الطرفين.
بعد هذه الحقائق والمسلمات نعود لجوهر التساؤل الذي طرح في أول الورقة وهو أي من هذه الرهانات قادر على أن يخرج ليبيا من نفقها المظلم بأقل التكاليف وأسرع الأوقات؟ ، وأي منها يمكن أن يساهم في وضع قاعدة للمسار الديمقراطي في ليبيا؟ وأي منها يمكن أن يخفف من معاناة الليبيين ومعيشتهم بتحسين الوضع الاقتصادي.؟
إن الاعتماد على الدعم الدولي مهما كان حجمه لن يكون في مستوى طموحات وأمال وتطلعات الشعب الليبي، بل المصالح المتعارضة والمتناقضة بين الدول اتجاه ليبيا قد تجعل هذا الدعم مجرد أوهام وخيالات ووعود وتصريحات لا تغني ولا تسمن من جوع، والاعتماد الحقيقي والجهد الفعال يجب أن ينصب على الجهود المحلية الوطنية والتي أهمها مشروع صياغة الدستور واتفاق الجميع على مسارات محددة قابلة للتطبيق تعتمد على اتفاقهم على صيغة توافقية تكون في شكل عقد ، وثيقة ، دستور ، مسودة ، يحتكمون لها وتشكل مرجعيتهم.
ولقد عبر رئيس بعثة الأمم المتحدة السابق إلى ليبيا طارق متري في مقالة له بجريدة الشرق الأوسط بقوله : الفرصة الحقيقية لحل مستدام تأتي باتفاق الجميع، فلقد أجريت في ليبيا 3 انتخابات بعد سنة 2011 واحدة للمؤتمر الوطني العام، وثانية لهيئة صياغة الدستور، وثالثة لمجلس النواب ولم تَتَقَدم ليبيا على طريق الديمقراطية، فالانتخابات المستعجلة في بلد لا مؤسسات قوية فيه، ولا حكم قانون، ولا قيم ديمقراطية راسخة تعمّق الانقسامات، لأن الفائز يأخذ كل شيء أو يسعى لذلك، ولأن تأجيج الصراع ثم الاضطرار إلى المهادنة يعزّز نوازع الغلبة التي ترى في التسوية خياراً غير مستحب، لذلك فإن الفرصة الحقيقية لحل مستدام تتعزّز باتفاق الجميع، وعملهم المشترك على بناء الدولة ومؤسساتها، واعتباره مقدّماً على مسألة تقاسم السلطة [16].
إن الرهان على استمرار المراحل الانتقالية قد استمرَّ من سنة 2012 وحتى ألان ولم يضع القاطرة على السكة في مسارها الصحيح، وان الخيار العسكري كان مؤلم ومكلف مادياً ومعنوياً، ولم يبقى أمامنا إلا خيار الاتجاه نحو إيجاد عقد اجتماعي يؤسس لكيفية إدارة الصراع والتنافس، يعتمد على تجارب الكثير من الدول التي مرت بمراحل التغيير واستطاعت تجاوز أزماتها، هذا العقد الاجتماعي الذي أبدع فكرته الفلاسفة أمثال توماس هوبز ثم جون لوك ثم جان جاك روسو هو الأساس الذي علينا إيجاده والسعي لإبرازه للوجود، وهذا لن يتم إلا عن طريق الاستفتاء على الدستور أولاً، ثم الذهاب إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية وان لا نضيع الوقت في ( جدلية أيهما اسبق البيضة أم الدجاجة)، في اعتقادي علينا دمج هاذين الرهانين في رهان واحد يعتمد على التأسيس لأرضية قانونية صلبة تعتمد على إقرار الدستور وبأسرع الأوقات ثم الذهاب إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية تخرج ليبيا من نفق المراحل الانتقالية ومن النزاعات المسلحة .
الهوامش :
[1] – من خلال المعايرة على الدستور والتي أجراها مركز دراسات القانون والمجتمع بجامعة بنغازي تحصل مشروع الدستور على 78 نقطة من إجمالي 100 نقطة ، يمكن المراجعة على الربط التالي :
https://www.scribd.com/document/366302177/%
كذلك يمكن الاطلاع على رد الدكتور الهادي أبو حمرة على هذه المعايرة على الربط التالي :
https://alwasat.ly/ar/news/170/164473/
[2] – بينت مسيرة ست سنوات أن الصراع أخد عدة أشكال فهو أحياناً صراع بين التوجهات الدينية ( إخوان – مقاتلة – أنصار الشريعة – داعش – القاعدة – سلفية -) ، ,وأحياناً يكون يعتمد على التوجهات الليبرالية العلمانية في مواجهة تيارات الدين ، وأحياناً يأخذ الصراع شكل قبلي جهوي خاصة في مناطق الغرب والجنوب الليبي ( المشاشية والزنتان – الصيعان ونالوت – بني وليد ومصراته – التبو والطوارق – الزوي والتبو -).
[3] – فرانسيس فوكوياما ، أميركا على مفترق طرق: الديمقراطية، السلطة، وميراث المحافظين .
[4] – https://www.facebook.com/profile.php?id=100002609423800
[5] – http://alwasat.ly/ar/news/libya/163885/
[6] – أهم القضايا التي كانت موضع خلاف بين الأطراف : المؤسسة العسكرية وتتمثل في بالمادة الثامنة من الاتفاق السياسي، وعملية اختيار رئيس المجلس الرئاسي ونائبيه، وكيفية تولي بعض المناصب السيادية في الدولة .
[7] – انظر نص المبادرة على هذا الرابط : http://akhbarlibya24.net/2017/11/22/%d8%a7%d8%b7%d9%84%d8%b9-
[8] – د.زايد عقيل . تحولات محتملة… تراجع الحسم العسكري وتزايد التسوية للأزمة الليبية ، مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية انظر الرابط التالي :
http://acpss.ahram.org.eg/News/16500.aspx
[9] – احد الداعمين لهذا التوجه الدكتور الهادي أبو حمرة والذي تفضل مشكوراَ بتبيان الأرضية القانونية لمساوئ الذهاب إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية دون إطار تشريعي يحكمه.
[10] – http://alwasat.ly/ar/news/libya/166093/
[11] – المصالحات التي تمت في المنطقة الغربية عقب انتهاء حرب فجر ليبيا بين : الزاوية – ككلة – الزنتان – العوينية – القواليش .
http://www.alalam.ir/news/3125881/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%B1%9-
[13] – د.زايد عقيل . تحولات محتملة… تراجع الحسم العسكري وتزايد التسوية للأزمة الليبية ، مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية انظر الرابط التالي :
http://acpss.ahram.org.eg/News/16500.aspx
[14] -يمكن مراجعة هذه التوصيات على الرابط التالي http://alwasat.ly/ar/news/libya/46252/
[15] – تابعت الفاعلية التي أقامها مركز ليبيا للدراسات المتقدمة حول الشأن الليبي والتي تحدث فيها السيد فتحي المجبري عضو المجلس الرئاسي حول بعض التصورات والتساؤلات العميقة وأهمها : كيف يمكن للصراع في ليبيا إن نضعه في بوتقة واحدة وهدف واحد يخدم الوطن؟ كان هذا تساؤله فإجابتي حول هذه الجزئية : أنه ليس هناك حل لإنهاء مشكلة الجهوية والقبلية والمناطقية والشخصية والأنانية إلا بالاتجاه للعمل التنظيمي الحزبي، والذي سينسقل مع التجربة والمحاولة والخطاء، ولم يصل التفكير الإنساني إلى أي صيغة توافقية فكرية أفضل من هذه لتنظيم الصراع، والتي وصل إليها العقل البشري بعد مسيرة طويلة للفكر السياسي الإنساني بدأت من دولة اليونان سقراط وأفلاطون وأرسطو ثم الرومان شيشرون وغيرهم ثم الإسلام الفارابي وابن سينا ثم الكتابات الحديثة هوبز ولوك ورسو حول العقد الاجتماعي وميكيافلي ومنتسيكيو وغيرهم ..ولهذا اختصاراً للزمن والوقت وإبعاداً للفوضى والانهيار ليس هناك إلا هذا الطريق وهذا التوجه.
[16] – مقالة للسيد طارق متري بجريدة الشرق الأوسط : السبت – 17 شعبان 1438 هـ – 13 مايو 2017 رقم العدد [14046 تجدونه على الرابط التالي :
https://aawsat.com/home/article/924736/%D8%B7%D8%A7%D8%B1%D9%82-