تحقيق/ سلمى عداس.
وسط أزمات ليبيا المستمرة، تنمو في الظل ظاهرة تُثير القلق: أطفال يولدون من أمهات مهاجرات غير نظاميات، لا يحملون وثائق، ولا يعترف بهم أي نظام.
في كل شهر، تستقبل المستشفيات الليبية حالات ولادة لأمهات في وضع إنساني طارئ، لكن ما إن يولد الطفل حتى يجد نفسه في مواجهة فراغ قانوني، ومصير مجهول.
هذا التحقيق يتتبع مسار هؤلاء الأطفال، من لحظة الولادة إلى ما بعدها، ويسأل: هل كتب على هؤلاء أن يولدوا في الظل، بلا هوية، وبلا وطن؟
مريم وإسحاق: عندما يولد الطفل في الظل ويموت بلا اسم“. في أطراف مدينة طرابلس، وفي ظل الفوضى التي ترافق حياة المهاجرين غير النظاميين، التقت مريم، شابة نيجيرية هاربة من ظروف الفقر والعنف، بـإسحاق، شاب من غانا يحمل الحلم ذاته: أن يجد عملاً شريفًا يؤمّن له حياة كريمة. لم تكن بينهما أوراق، ولا صور زفاف، ولا عقد زواج موثق. تزوجا وفق تقاليدهم، كما يفعل كثير من المهاجرين، واكتفوا بمعرفة اسم الدولة التي جاء منها كل منهما.

لم يكن الحلم كبيرًا. لا عبور إلى أوروبا، ولا بحر. فقط عمل بسيط، وسقف يحميهم.
وبعد أشهر من زواجهما، حصل إسحاق على عمل في إحدى المزارع على أطراف طرابلس. انتقلا معًا للعيش في مكان بسيط داخل المزرعة، بعيديْن عن أعين الناس والسلطات.
ومع مرور الوقت، بدأت مريم تظهر عليها علامات الحمل، وانتظر الزوجان طفلهما الأول بأمل مختلط بالخوف. لم تكن هناك زيارات للطبيب، ولا فحوصات، فقط الدعاء أن تمر الأمور بسلام.
وفي أحد الأيام، شعرت مريم بآلام المخاض. لم يكن معهما سوى صاحب المزرعة، الذي قرر مساعدتهما، ونقل مريم إلى المستشفى بسيارته. دخلت مريم قسم الطوارئ وهي في حالة ولادة متقدمة، دون أوراق، دون تسجيل، دون أي إجراء قانوني.
فعل الطاقم الطبي ما يجب فعله. ساعدوها على الولادة، وخرج الطفل سليمًا معافى. ابتسمت مريم، وشكر إسحاق الله على هذه النعمة، ولكن لم يعرف أنهما كانا على وشك الدخول في مأساة أكبر.
حين جاء وقت تسجيل الطفل للحصول على بطاقة التطعيم الأساسية، رفضت إدارة المستشفى إصدار أي وثيقة أو بطاقة، بحجة أن الأم لم تدخل بشكل رسمي، وأنها مجهولة الهوية، ولا تملك أي مستند يُثبت نسب الطفل أو جنسيته.
تردد إسحاق في الضغط على الإدارة، وخشي أن يؤدي ذلك إلى إبلاغ الجهات الأمنية أو ترحيلهم. تدخل صاحب المزرعة مجددًا، واستخدم علاقاته ليُغلق الملف بهدوء.

خرجت مريم من المستشفى مع طفلها، دون اسم، دون شهادة ميلاد، ودون تطعيم.
كان الطفل هادئًا في أيامه الأولى، لكن بعد نحو شهرين، بدأ يُصاب بالحمى. لم يكن لديهم مال كافٍ للعلاج، ولا أوراق للدخول إلى أي مستشفى. حاولوا خفض حرارته بالماء وطرق منزلية، لكن حالته ازدادت سوءًا.
وفي صباح حزين، توفي الطفل بين ذراعي مريم. لم يُسجل الطفل يومًا في أي سجل رسمي. لم يحمل اسمًا. لم يأخذ لقاحًا. لم تُكتب له النجاة.
جلست مريم تبكي لأيام، غير قادرة على الحديث. لم تعد ترى في البلاد أمانًا، ولا في الحياة حولها فرصة.
قالت لإسحاق: “لو ولد في مكان يعرفونه، لو كان له ورقة، ربما كان حيًا الآن…”
بعد أيام من الصمت الثقيل، قررا الذهاب إلى مكتب المنظمة الدولية للهجرة. لم يكن في نيتهما المغادرة من قبل. لم يكونا ممن يسعون لعبور البحر، بل فقط أرادا العمل والعيش في ليبيا. لكن موت الطفل كسرهما من الداخل.
سجلا في برنامج العودة الطوعية، ووافقا على العودة إلى موطن إسحاق في غانا، تاركين وراءهما كل شيء… المزرعة، الغرفة الصغيرة، القبر الصامت، والحلم البسيط.
غادرت مريم البلاد بصمت، لكنها حملت في قلبها وجعًا لن يُشفى أبدًا.
وغاب إسحاق معها عن مشهد طرابلس، كأنهما لم يكونا هنا من قبل.

ماحدث لمريم وإسحاق ليس سوى قصة واحدة من بين مئات القصص التي لا تُروى، والتي تبقى مطموسة تحت طبقات من الخوف، والصمت، والخذلان.
في خلفية قصة مريم وإسحاق، تقف نساء كثيرات يخضن معارك صامتة، لا تُروى ولا تُكتب
إحداهن وضعت طفلها في أحد المستشفيات العامة، ثم غادرت دون أن تنظر خلفها، لأن كل ما تملكه كان جسدًا أنهكته الرحلة، وقلبًا مثقلًا بالعجز… لم تترك له حتى اسمه.
وأخرى، تم اعتراض طريقها على حافة الصحراء، واقتيدت قسرًا إلى أحد مخازن الاتجار بالبشر، وهناك تعرّضت للاغتصاب، وخرجت تحمل في أحشائها طفلاً لا تعرف ملامح من غرسه فيها، ولا تملك الجرأة على النظر في وجهه، لأنها بالكاد قادرة على حماية نفسها… فكيف تحمي حياةً لم تطلبها؟
وفي زاوية مهجورة داخل منزل نصف مهدّم، تعيش امرأة ثالثة تُخفي حملها عن العالم. كلما تحرك الجنين في رحمها، ازداد قلبها ارتجافًا. تدرك أن ذهابها إلى المستشفى قد يعني التوقيف أو الترحيل، وأن الولادة في الخفاء قد تكون آخر ما تفعله على قيد الحياة. إنها تقف بين قانونٍ لا يرحم، وأمومة لا تستطيع التخلي عنها.
لكن، وعدا عن هؤلاء الثلاث، هناك أيضًا الكثير… والكثير مما لا يُقال.

نساء مهاجرات، هربن من جحيم الحروب، دخلن ليبيا برفقة أزواجهن وأطفالهن، لا يحملن سوى حلم بالنجاة وسقف آمن. إلا أن بعضهن وقعن في شراك الخطف، وسُحبن إلى أوكار مظلمة تُمارس فيها كل أشكال الانتهاك. وبعد أيام أو أسابيع من الاحتجاز، أُطلق سراح إحداهن، تحمل في أحشائها جنينًا من فعل لم تختره، لتُقابل بصدمة أعنف: زوج يرفض، ومجتمع لا يرحم، وطفل بلا اسم أو مستقبل.
تصدمها نظرات الاتهام، وتجد نفسها تواجه ثلاث مآسٍ في آن: مرارة الاغتصاب، ومرارة الانفصال، ومرارة الحمل القسري، الذي لا تعرف كيف ستُعرّف به، أو لمن ستُجيبه إذا سُئلت عنه.
إنها قصص لا تُوثّق. لا وجود لها في سجلات رسمية، ولا في ملفات الدولة، ولا على صفحات الصحف. هي حكايات الأرض، تنقشها جدران العشوائيات، وأرصفة المستشفيات، وصمت النساء في مخيمات القهر.
قصص لا تُروى في تحقيق صحفي، لكنها حية، وموجودة، وتمشي بيننا كل يوم.
وهنا، يطرح السؤال نفسه، بوجع لا يمكن إنكاره: كيف يمكن لليبيا أن توازن بين الحفاظ على سيادتها، وبين أداء واجبها الإنساني؟
كيف يمكن أن نضمن لهؤلاء الأطفال حدًا أدنى من الحقوق؟
كيف يمكن تقنين أوضاع عائلاتهم بحيث يحصلون على إقامات سليمة، وولادات موثقة، وإجراءات قانونية تحفظ للطفل كرامته وحقه في الحياة؟
بل أكثر من ذلك، كيف يمكن تحويل هذا الواقع المأساوي إلى فرصة لبناء مجتمع متوازن، يُدير ملف الهجرة بطريقة حضارية تحفظ لليبيين أمنهم، وللوافدين كرامتهم؟
إن الشعب الليبي، المعروف بكرمه وتسامحه، لا يحتاج فقط إلى يد عاملة، بل إلى منظومة متكاملة تحفظ هذه اليد، وتؤمّن حياة من يقف خلفها.

وإن الدولة الليبية، بكل تحدياتها، قادرة – إن أرادت – أن تكتب فصلاً جديدًا في التعامل مع هذا الملف، يقوم على العدالة لا القسوة، وعلى التنظيم لا الطرد، وعلى القانون الذي يحمل روح الإنسان، لا سوط السلطة فقط.
فكل طفل يولد هنا، حتى في الظل، هو صرخة تطلب أن تُرى.
وفي تصريح خاص لطبيب يعمل في أحد المستشفيات العامة في ليبيا، فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، كاشفًا عن حجم التعقيد الإنساني والإداري الذي يواجهه العاملون في القطاع الصحي عند التعامل مع ولادات الأمهات المهاجرات غير النظاميات.
يقول الطبيب: “نواجه في أقسام الولادة حالات متكررة لأمهات مهاجرات يصلن إلى المستشفى في حالة مخاض دون أن يحملن أي أوراق هوية، وأحيانًا دون أي مرافق أو جهة مسؤولة. نُجري لهن عمليات الولادة مثل أي حالة طارئة، لأننا كأطباء لا يمكننا التمييز في تقديم الخدمة الطبية، ولكن الإشكال الحقيقي يبدأ بعد الولادة.”
ويتابع: “في كثير من الأحيان، تهرب الأم مباشرة بعد الولادة أو خلال الساعات الأولى، تاركة المولود دون اسم، ودون أي بيانات، ما يضعنا أمام موقف قانوني وإنساني بالغ التعقيد. نحن مضطرون لإبلاغ الجهات الأمنية والإدارية المختصة، لكن لا توجد لدينا أي صلاحية لتسجيل الطفل رسميًا، أو تسليمه لأي مؤسسة رعاية أو منظمة.”
ويضيف الطبيب بأسف: “نضطر للاحتفاظ بالمولود داخل وحدة الحضانة أو قسم الأطفال حديثي الولادة، حيث يتولى الطاقم التمريضي رعايته بشكل مؤقت، ولكن لا يمكننا المضي أكثر من ذلك. هناك فراغ قانوني واضح، ولا توجد تعليمات موحدة أو قانون يُنظّم آلية التعامل مع هؤلاء الأطفال.”

ويختم تصريحه قائلاً: “كل ما نستطيع فعله هو تقديم الحد الأدنى من الرعاية الطبية والإنسانية، ولكن واقع الطفل بعد مغادرته المستشفى يبقى مجهولًا تمامًا. لا أحد يعرف أين سيذهب، ولا كيف سيتم التعامل معه لاحقًا. إنه وضع مؤلم جدًا، خاصة أننا نرى أطفالًا يُولدون بلا ذنب، ثم يُتركون في مواجهة مصير غير معلوم بسبب غياب إطار قانوني واضح ينظم هذا النوع من الحالات.”
تقول إحدى العاملات في مجال الرعاية الصحية، فضّلت عدم ذكر اسمها لأسباب أمنية: أيضا “ليست كل النساء المهاجرات يستطعن الوصول إلى المستشفى حين يأتيهن المخاض. هناك من يخترن أن يلدن في أماكن إقامتهن، في غرف ضيقة داخل تجمعات عشوائية، أو حتى في أركان مهجورة من المباني التي يقطنّ فيها. يفعلن ذلك ليس لأنهن لا يردن الرعاية الطبية، بل لأنهن خائفات… خائفات من التوقيف، من الترحيل، من أن يُسحب منهن أطفالهن أو أن يُزجّ بهن في السجون لمجرد أنهن لا يملكن أوراقًا رسمية.”
“نحن نعلم أن هذه الولادات تحدث، نسمع عنها من زميلات أو جيران أو حتى حين تأتي الأم بعد أيام وهي في حالة صحية حرجة، أو حين نرى طفلًا لم يُسجّل في أي مستشفى ولم يتلقَ أي تطعيم. يولد الطفل في الخفاء، دون شهادة ميلاد، دون بطاقة تطعيم، دون هوية، ودون حماية.”
“الخطر هنا لا يقع فقط على الأم أو الطفل، بل علينا جميعًا. الولادة خارج الإشراف الطبي تعني احتمالات كبيرة لنقل العدوى، لظهور مضاعفات مميتة، لأمراض تنتقل من جيل إلى آخر في صمت. الطفل الذي يولد بلا لقاح يصبح عُرضة لكل الأوبئة، والطفل الذي يولد بلا اسم، يصبح ظلًا في المجتمع، لا يستطيع أن يدخل مدرسة، أو يتلقى علاجًا، أو حتى أن يُدفن بكرامة إن حدث له مكروه.”
“إنها قصص نراها بعيننا، لكنها لا تُوثّق في الأوراق. هم يولدون بيننا، لكن لا أحد يعترف بهم. لا الدولة، ولا القانون، ولا حتى العالم الخارجي. هؤلاء ليسوا أرقامًا، إنهم أرواح حقيقية، يولدون في قلب المأساة، ويمضون حياتهم في مطاردتها.”
وثائق طبية مسربة تؤكد تصاعد ولادات المهاجرات.
في ظل التزايد المستمر لحالات ولادة المهاجرات غير النظاميات داخل المستشفيات الليبية، تداول ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي صورًا لسجلات ولادة حديثة من مستشفى طرابلس، تعود لشهر مارس 2025، تُظهر ارتفاعًا ملحوظًا في عدد النساء غير الليبيات اللواتي أنجبن خلال تلك الفترة، معظمهن من جنسيات أفريقية مثل النيجر، السودان، ونيجيريا.

وجاء في أحد المنشورات المتداولة: “تشير هذه السجلات الحديثة والخطيرة إلى ارتفاع عدد الأمهات غير الليبيات اللواتي أنجبن في مستشفيات طرابلس خلال شهر مارس من هذا العام. وغالبًا ما يكنّ مهاجرات غير شرعيات بلا وثائق سفر، ولا تعترف حتى سفاراتهن بوجودهن. هذه الظاهرة تضيف أعباء على القطاع الصحي، وتخلق مشاكل قانونية للأطفال حديثي الولادة الذين قد يصبحون عديمي الجنسية.
وبالتأكيد، سيؤثر ذلك على التوازن الديموغرافي والاجتماعي في ليبيا، التي تعاني أصلاً من مشاكل متفاقمة عجزت الحكومات عن إيجاد حلول لها. الناس تعاني، فلا ترهقوها أكثر مما بها من هموم، متى ستستفيق الحكومات؟ الله أعلم.”
وتُظهر السجلات، التي تم تداولها بصور واضحة، معلومات دقيقة مثل الجنسية، وسنة الميلاد، وتاريخ القبول، وهو ما يعزز صدقية الوثائق ويمنح هذا الطرح وزنًا في سياق الأزمة الإنسانية والقانونية المتصاعدة.
مواليد بلا هوية في ظل غياب الإطار القانوني“.
رغم حساسية الملف، لم تصدر تصريحات رسمية حديثة من وزارة الصحة الليبية توضح آلية التعامل مع الأطفال حديثي الولادة من أمهات مهاجرات غير نظاميات، لا يحملن أوراقًا ثبوتية. إلا أن اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيا أعربت، في بيان لها صدر في مارس 2023، عن قلقها إزاء غياب خطة واضحة من وزارة الصحة لضمان الرعاية الصحية للفئات الهشة، من مهاجرين ونازحين وطالبي لجوء، دون اشتراط وثائق رسمية.
وفي الوقت الذي تُنادي فيه منظمات دولية بضرورة توفير الرعاية الصحية الشاملة للمهاجرين وأبنائهم، خصوصًا حديثي الولادة، فإن ليبيا امتنعت عن التصويت على “الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية”، في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ ديسمبر 2018، وهو اتفاق يضم 23 هدفًا، بينها بند صريح يدعو الدول إلى: “ضمان حصول جميع الأطفال المولودين على أراضيها، بمن فيهم أبناء المهاجرين غير النظاميين، على هوية قانونية منذ ولادتهم، دون أن يترتب على ذلك منحهم الجنسية تلقائيًا.”

(الهدف رقم 4 – تسهيل تسجيل المواليد ومنح الوثائق القانونية للمهاجرين)
ويعكس امتناع ليبيا عن التصويت ترددًا في الالتزام بتدابير حوكمة الهجرة الدولية، ربما لأسباب تتعلق بالسيادة الوطنية أو ضعف البنية التشريعية والإدارية التي تُمكّنها من تنفيذ بنود الاتفاق.
وتُبرز هذه المعطيات الحاجة الماسة إلى وضع سياسات وطنية واضحة وعادلة، تضمن الحد الأدنى من الحقوق الصحية والإنسانية للأطفال المولودين داخل الأراضي الليبية، بما يُحافظ على تماسك المجتمع، ويُجنّب البلاد أزمات مستقبلية أكثر تعقيدًا.
صمت دبلوماسي ومجتمع دولي غائب.
رغم أن آلاف الأطفال يولدون في ليبيا من أمهات مهاجرات غير نظاميات، يعيشون دون أوراق ولا حماية، لم تُصدر أي من السفارات الأجنبية في ليبيا تصريحات علنية أو بيانات رسمية تُعالج هذه الظاهرة أو تتابع أوضاع رعاياها من الأمهات أو الأطفال.
هذا الغياب لا يُعد مجرد تقصير دبلوماسي، بل يُسهم عمليًا في تعميق مأساة هؤلاء الأطفال، الذين لا تعترف بهم لا الدولة الليبية، ولا دول أمهاتهم. وفي ظل غياب إطار دولي فعال، يُصبح مصير الطفل متروكًا للصدفة أو الإهمال.
ويزداد الوضع سوءًا مع قيام السلطات الليبية في أبريل 2025 بإيقاف أنشطة عشر منظمات إنسانية دولية، من بينها “أطباء بلا حدود” و”المجلس النرويجي للاجئين”، كانت تقدم مساعدات طبية وغذائية ضرورية للمهاجرين، بما في ذلك الحوامل والمواليد الجدد. هذا القرار، الذي برّرته الدولة بذرائع قانونية، قطع شريان الدعم الإنساني الوحيد الذي كان يُخفف من آثار هذا الواقع المأساوي.
تُظهر هذه التطورات أن غياب الموقف الدبلوماسي، وغياب المنظمات الفاعلة، وغياب الدولة القانونية، كلّها عوامل اجتمعت لتُنتج جيلاً يُولد على الأرض الليبية بلا اسم، بلا وطن، وبلا جهة تتبناه أو تدافع عن حقه في الحياة.
وقد صرّح المستشار القانوني عقيلة بن زيد محجوب، أن القانون الليبي يُصنّف بوضوح كل من يدخل الأراضي الليبية دون وثائق رسمية بأنه “مهاجر غير شرعي”، ويخضع بذلك لأحكام القانون رقم 19 لسنة 2010 بشأن مكافحة الهجرة غير الشرعية، والذي يُرتّب إجراءات قانونية تشمل تقييد الحرية، والمساءلة القضائية، والترحيل في حال ثبوت عدم مشروعية الدخول أو الإقامة.

وقد أوضح المستشار أن وجود زوجين داخل ليبيا، حتى وإن كانت هويتهم معروفة لدى السلطات، لا يُعفيهم من المسؤولية القانونية ما لم يكونوا حائزين على أوراق رسمية تُثبت دخولهم أو إقامتهم بشكل قانوني. وفي هذه الحالة، يُعتبر وجودهم غير قانوني، وتُطبّق عليهم أحكام الهجرة غير الشرعية.
وأضاف: “يُوقَف الزوج في الغالب مباشرة، ويُحال إلى الجهات المختصة، بينما تُعامَل الزوجة – خصوصًا إن كانت في مرحلة الحمل أو بصحبتها طفل – كحالة إنسانية، حيث قد تُوضع تحت الحراسة أو يُحدّد لها مكان احتجاز إداري خاص، إلى حين البث في حالتها“.
وتابع: “بعد قضاء العقوبة، وفي غياب وثائق تُثبت جنسية محددة، غالبًا ما يُدّعي الانتماء إلى دولة ما على سبيل المثال ( مالي، النيجر، بوركينا فاسو)، تجنّبًا لتبعات الترحيل كعديم جنسية. وفي حال وجود اتفاقيات ثنائية، يمكن تسليم الزوجة لدولتها الأصلية، شريطة التأكد من هويتها. أما الطفل، فتعامل الدولة الليبية معه وفق منظور مختلف“.
وأوضح المستشار أن التشريعات الليبية لا تتضمن نصًا خاصًا يُعالج وضع الطفل المولود لأم مهاجرة غير شرعية بشكل مباشر، ولكن يتم التعامل معه ضمن الإطار العام لقوانين حماية الطفولة والحقوق المدنية.
وأشار إلى أن المادة 25 من القانون المدني الليبي رقم 36 لسنة 1968 تنص صراحة على أن “الطفل المجهول الأبوين، أو مجهول الأب على وجه الخصوص، يُعدّ ليبيًا، ويُسجّل في السجل المدني باسمه الذي تختاره اللجنة المختصة، ويُمنح جميع حقوق المواطن“.
وقد ختم المستشار عقيلة محجوب تصريحه بالتأكيد على أن: “الطفل الذي تلده مهاجرة غير شرعية، ويكون مجهول النسب أو مجهول الأب، يُسجَّل كمواطن ليبي بصرف النظر عن جنسية الأم أو هويتها.
ويُعتبر قانونًا “ساقط قيد”، ويُعامل كليبي الأصل، ويُمنح اسمًا وتسجيلًا رسميًا في السجلات المدنية، وتتحمّل الدولة الليبية مسؤوليته القانونية والإنسانية بشكل كامل.”
أبناء الظل، حين تصبح الهوية رهينة المزاج السياسي.
تصريح خاص من الناشط الحقوقي طارق لملوم لصحيفة فسانيا.

في حديثه لـ«فسانيا»، قال الحقوقي طارق لملوم، المتخصص في ملف الهجرة غير النظامية، إن أوضاع الأطفال المولودين لأمهات مهاجرات غير نظاميات في ليبيا خلال العقد الأخير تعاني من هشاشة قانونية خطيرة، في ظل غياب أبسط أشكال الحماية القانونية والإنسانية.
وأضاف لملوم أن تعامل الدولة مع هذا الملف ظل مرتهنًا للمزاج السياسي وتقلبات الحكومات المتعاقبة.
ولادة بلا رعاية… وحرمان من الحق في الحياة الكريمة.
يوضح لملوم أن المهاجرات غير النظاميات تعرضن لمعاملة متفاوتة من مؤسسة لأخرى، ومن مرحلة لأخرى، حيث سُمح في بعض الفترات لهن بالولادة في المستشفيات العامة، بدعم من منظمات دولية أو محلية، في حين تم التضييق عليهن ومنعهن من الدخول إلى هذه المرافق في فترات أخرى. هذا التباين دفع بعض النساء للولادة في ظروف غير إنسانية، ودون رعاية طبية، ما يُشكّل خطرًا مباشرًا على حياة الأمهات وأطفالهن.
غياب السفارات، وجنسيات ضائعة.
وأشار إلى أن غياب التمثيل الدبلوماسي لبعض الدول التي تنتمي إليها المهاجرات، يُصعّب عملية توثيق المواليد. وتزداد الصعوبة حين تُخفي الأمهات هوياتهن خوفًا من الترحيل، فيقول: “لدينا حالات تدّعي فيها الأم أنها نيجيرية، ولكن عند التواصل مع السفارة يتبيّن أنها ليست كذلك، ما يجعل إثبات النسب والجنسية شبه مستحيل.”
الاتجار بالبشر… خطر بلا حماية.
نبّه لملوم إلى أن الأطفال المولودين دون هوية رسمية معرضون لخطر الاستغلال والانخراط في شبكات الاتجار بالبشر، في ظل غياب أي آلية رسمية فعّالة لحمايتهم.
وأشار : “وعلى سبيل المثال التوضيحي، إذا تم ترحيل طفل من هؤلاء إلى السودان دون أن يكون سودانيًا، ثم اكتُشف لاحقًا أنه لا ينتمي إلى تلك الدولة، فإن هذا قد يسبب له ضررًا نفسيًا بالغًا، ويؤدي إلى ضياع مستقبله بالكامل قانونيًا واجتماعيًا.”
المفوضية واللاجئون: حماية محدودة لا تُغني.
وأوضح أن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تقدّم خدمات توثيق مؤقتة للأطفال المولودين لأمهات مسجلات لديها كلاجئات، إلا أن هذا الدور يبقى محدودًا ولا يُعفي الدولة الليبية من مسؤوليتها الأساسية.
قضية ليست مستعصية… بل تنتظر قرارًا.
شدّد لملوم على أن المشكلة ليست في الأدوات أو الإمكانيات، بل في غياب الإرادة السياسية: “نحن لا نتحدث عن أزمة ضخمة، بل عن عدد محدود من الأطفال يمكن تسوية أوضاعهم القانونية. جهاز الهجرة يعمل، والمنظمات الدولية موجودة، ولكن لا أحد يتخذ القرار. ما ينقص هو الرغبة فقط.”
ليبيا واتفاقية حقوق الطفل: التزامات غائبة عن الفعل.
ذكّر بأن ليبيا دولة طرف في اتفاقية حقوق الطفل، ما يُلزمها قانونيًا وأخلاقيًا بحماية كل الأطفال على أراضيها، بغض النظر عن أوضاع ذويهم القانونية.
وقال: “الطفل الذي يولد على التراب الليبي يجب أن يُعترف به قانونيًا. هذا حق، وليس مسألة تفاوض.”
المساءلة القانونية واردة.
لفت لملوم إلى أن حرمان الأطفال من الهوية أو الرعاية يمثل انتهاكًا واضحًا، ويمكن أن يحمّل الدولة الليبية مسؤوليات قانونية، خاصة إذا ثبت وجود تقصير ممنهج أو إهمال رسمي.
لا عذر بالإمكانيات: الإرادة هي الغائبة.
وأضاف: “حتى لو كانت الدولة غير قادرة على تقديم كل الخدمات، فعليها أن تُعلن ذلك وتتعاون مع المنظمات الأممية. المشكلة لا تتعلق بالموارد، بل بغياب الإرادة.”
المجتمع المدني… الصوت الضعيف والمستمر.
ورغم ما يعانيه المجتمع المدني من تضييق، إلا أن لملوم يؤكد أن الجهود الحقوقية لم تتوقف: “أصدرنا بيانات عدة وأكدنا أن القوانين الليبية – في حال طُبقت – كافية لحماية حقوق الطفل. لكن غياب التنفيذ والمتابعة يعود إلى الانقسام وغياب جهة موحّدة تتحمّل المسؤولية“.
دروس من الخارج… وتجربة قابلة للتطبيق.
واختتم تصريحه “ليبيا ليست عاجزة، بل تحتاج فقط إلى التنظيم والتنسيق، وقال: “الوضع في دول مثل سوريا أكثر تعقيدًا، ومع ذلك يتم العمل لحماية الأطفال. ليبيا تملك بنية قانونية وصحية لا بأس بها، وهناك وكالات أممية جاهزة للتعاون. ما نحتاجه هو قرار وطني يتجاوز التجاذبات السياسية، وينحاز لمصلحة الطفل“.

“المنظمات في موقف حرج… حضور خجول وقيود قانونية“.
رغم الجهود الفردية المبذولة من بعض العاملين في المجال الإنساني، يبقى دور المنظمات المحلية والحقوقية في ليبيا محدودًا وخجولًا في التعامل مع أزمة الأطفال المولودين من أمهات مهاجرات غير نظاميات. إذ تواجه هذه الجمعيات تحديات قانونية وإدارية كبيرة، أبرزها عدم وجود إطار قانوني يُجيز احتضان أو رعاية الأطفال الأجانب عديمي النسب، فضلًا عن غياب مراكز إيواء مؤهلة لاستقبالهم.
أما على مستوى المنظمات الدولية مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فغالبًا ما تُقيّد تدخلاتها بشروط صارمة، أهمها وجود إثبات لهوية الأم أو تسجيلها رسميًا كطالبة لجوء. وهو ما لا يتوفر في غالبية هذه الحالات، مما يترك الأطفال في فراغ قانوني وإنساني مؤلم، ويُعقّد فرص نقلهم لأي نظام رعاية مؤسسي.
وبين غياب الدولة، وتحفّظ القانون، وقيود المجتمع الدولي، يُترك الطفل في قلب أزمة لا يملك فيها صوتًا، ولا سندًا، ولا ورقة تثبت أنه وُجد على هذه الأرض.
“أرقام في الظل: تقديرات لولادات بلا هوية“.
تشير التقديرات المستخلصة من مراجعة التقارير الدولية، وعلى رأسها بيانات المنظمة الدولية للهجرة (IOM) والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، إلى أن ما بين 6,000 و8,000 طفل قد وُلدوا من أمهات مهاجرات غير نظاميات داخل الأراضي الليبية خلال عامي 2023 و2024 فقط.
ويعتمد هذا التقدير على معطيات تفيد بأن النساء يُشكّلن حوالي 11% من إجمالي المهاجرين في ليبيا، والذين يُقدّر عددهم بأكثر من 787,000 شخص، بالإضافة إلى أن الأطفال يُشكّلون أكثر من 30% من اللاجئين وطالبي اللجوء المسجلين في البلاد.
وباحتساب هذا المعدل على مدى عشر سنوات، يُحتمل أن يكون ما يزيد عن 30,000 طفل قد وُلدوا لمهاجرات غير نظاميات في ليبيا، معظمهم في ظل غياب أي إجراءات توثيق رسمية، ما يعرّضهم لخطر أن يُصبحوا عديمي الجنسية، بلا هوية قانونية، ولا حماية اجتماعية.
جيل بلا هوية… خطر يتزايد.
هؤلاء الأطفال يكبرون في الظل، بلا وثائق، بلا جنسية، بلا تعليم، وبلا حماية قانونية. في بلد يعاني أصلاً من تحديات في تسجيل بعض مواطنيه الأصليين، يُضاف إليهم جيل جديد لا ينتمي لأحد، ولا يستطيع أحد أن يطالب به.














