- كتبت : سلمى مسعود
في كل مرة تصلنا أخبار عن زوجة تُقتل على يد زوجها في ليبيا، يتكرر السؤال القاسي: لماذا تفضّل بعض العائلات أن تدفع بناتها إلى مواجهة الموت بدل أن تتحمل كلمة “مطلقة”؟ هذا السؤال ليس عابرًا؛ إنه مفتاح لفهم مأساة تتكرر بصمت خلف أبواب مغلقة. قصص النساء تبدأ عادة بأحلام بالاستقرار، لكن سرعان ما يتحول البيت إلى سجن، ويصبح من يُفترض أن يكون سندًا مصدر الخوف والتهديد. ولأن المجتمع يخشى لقب “مطلقة” أكثر من خوفه على أرواح النساء، تعود الضحية إلى بيتها، إلى نفس العذاب، حتى ينتهي الأمر بجريمة تضاف إلى سجل طويل من العنف الأسري.
القتل مرتين: بيد الزوج وصمت المجتمع
القتل في هذه القضايا لا يحدث دفعة واحدة، فالمرأة تُقتل ببطء، تُقتل كل يوم عندما تتعرض للضرب والإهانة، وتُقتل حين تصرخ ولا تجد من يحميها، ثم تُقتل أخيرًا جسديًا عندما تفقد كل فرصة للنجاة. إنها ليست جريمة زوج ضد زوجة فقط؛ إنها جريمة يشارك فيها المجتمع كله: الزوج يمارس العنف، والعائلة تفرض الصمت والعودة، والجيران يتجاهلون، والقانون يقف متأخرًا أو غائبًا.
ثقافة تبرر القتل بدل إدانته
المجتمع المتوسطي في ليبيا والمنطقة العربية يحمل ذهنية خطيرة عند سماع خبر قتل الزوج لزوجته؛ فالعبارة الجاهزة التي تتردد دائمًا هي: “أكيد مدائرة شي… ما قتلهاش بلاش”. هذا الحكم المسبق لا يكتفي بتبرئة القاتل قبل التحقيق، بل يطعن في سمعة الضحية حتى بعد موتها. إنه تبرير يقتل مرتين: مرة حين يُمنح المعتدي شرعية اجتماعية، ومرة أخرى حين يُلقى اللوم على الضحية وكأنها المسؤولة عن مصيرها. هذه العقلية تعكس عمق الخلل في ثقافتنا، حيث يتحول الضحية إلى متهمة، ويُصبح المجرم شخصًا “له أسبابه“.
لماذا تختار العائلة الصمت؟
الخوف من كلام الناس هو السبب الأكبر، هذه العبارة البسيطة تختصر مأساة مجتمع يفضّل صورة زائفة أمام الآخرين على سلامة بناته. في ثقافتنا الليبية، تُربط سمعة العائلة بحياة المرأة، ومطلّقة تعني في نظر البعض “فضيحة”، لذلك تدفع العائلات بناتها إلى تحمل الضرب والإهانة والخطر بدل مواجهة نظرة المجتمع. لكن الثمن هنا حياة، والنتيجة واضحة: كل عام نودّع ضحايا جددًا، وكل مرة نُفجع ثم نصمت وكأن شيئًا لم يكن.
القانون غائب والدم حاضر
المرأة التي تلجأ إلى القانون لا تجد حماية حقيقية، فالشكاوى لا تكفي، ولا توجد مراكز إيواء، والمعتدي يعرف أنه يمكن أن يفلت من العقاب في ظل الفوضى والانقسام. القوانين الحالية قديمة وضعيفة ولا توفر حماية شاملة، وحتى عندما تصل القضايا إلى المحكمة كثيرًا ما يتذرع الجناة بالشرف أو الغيرة لتخفيف الأحكام، مما يجعل العدالة متأخرة عن إنقاذ الأرواح.
حين يختلط الدين بالعادات
الأخطر من كل هذا هو تبرير العنف باسم الدين أو التقاليد. الحقيقة أن الدين بريء من هذا الظلم، وما يحدث إساءة فهم متعمدة. السكوت على الظلم ليس فضيلة، بل مشاركة فيه. الزواج ميثاق رحمة، وليس إذنًا لتدمير حياة إنسانة باسم الشرف.
المسؤولية جماعية وليست مسؤولية الدولة وحدها
المجتمع قبل القانون مسؤول. من يعيد ابنته إلى بيت زوج يضربها يتحمل جزءًا من الجريمة، ومن يرى الضرب ويسكت يشارك في صناعة الجريمة القادمة، ومن يسكت خوفًا من كلام الناس يختار أن يكون صامتًا حتى الموت. لا يمكن تحميل كل شيء على الدولة، فالقوانين مهما اشتدت لن تعني شيئًا إذا بقيت ثقافة الصمت والخوف حاضرة.
ما الذي يجب فعله؟
لم يعد أمامنا ترف الانتظار. علينا مواجهة هذه المأساة بشكل شامل يبدأ بتغيير المفاهيم التي تجعل الطلاق عيبًا وتعتبر الصمت فضيلة، وعلى الدولة أن توفر مراكز حماية وإيواء للنساء المهددات، وتفعّل دور الشرطة والمحاكم في حماية الضحايا قبل أن تتحول القصة إلى جريمة. الإعلام والمدارس والمساجد مطالبة بالمشاركة في توعية المجتمع بأن حياة الإنسان وكرامته أغلى من كل الأعراف.
صرخة إلى كل أب وأم في ليبيا
أكتب هذه الكلمات وفي ذهني وجوه عشرات النساء اللواتي رحلن لأن أهلهن فضّلوا كلمة “سترة” على حياتهن. إلى كل أب وأم: عندما تقولون لابنتكم “اصبري” وأنتم تعرفون أنها تتعرض للتعذيب، تذكروا أنكم قد تدفعونها إلى قبرها. لا تجعلوا لقب “مطلقة” أغلى من حياة إنسانة. الحياة التي تُبنى على الخوف والإهانة ليست حياة، والدين لا يرضى بالظلم. فلنكسر الصمت قبل أن نصحو على مأساة جديدة غدًا.














