مأزق التاريخ والسينما

مأزق التاريخ والسينما

هند الزيادي

سنة 1961 التقت حقبة الرواية الجديدة بسينما الموجة الجديدة   في قمة سينمائية رائعة عندما تعامل المخرج الفرنسي آلان ريسنيه مع الكاتب الفرنسي آلا ن روب غرييه ليخرجا لنا رائعة سينمائية  تجريبية عنوانها “السنة الفارطة في مارينباد” وقد تحصل هذا الفيلم على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية لنفس السنة.

في ذلك الفيلم أراد الثنائي أن يكتشفا سبلا جديدة للإبداع ولغة سينمائية مبتكرة تخرج بالمشاهد عما اعتاد مشاهدته. وقد اختارا لذلك الهدف فكرة تحتمل التجريب ولا تضع عليه قيودا قد تصادر آفاق التأويل المختلفة التي سيتجه إليها المشاهد. الفيلم عبارة عن محاولة مستمرة من رجل لينعش ذاكرة امرأة احبها منذ سنة بينما تتهرب هي وتنكر الأمر. تدور الأحداث في مكان واحد، نزل فخم ووتتركب المشاهد بطريقة تجعل المشاهد في متاهة يتساءل عن دوافع الإنكار عند المرأة ودوافع الإصرار عند الرجل. المكان مليء بالمرايا التي تضيف على تكسير المشاهد وتداخلها وتارجحها بين الحقيقة والوهم.

القصد من كلامي السابق هو أنه من الجميل أن نطمح لخلخلة لغتنا السينمائية وتحريك سواكنها بشرط أن نحسن اختيار الأرضية/التربة  السردية المناسبة لذلك.

هذا بالظبط ما حاولت فعله  المخرجة سلمى بكار عندما تعاونت مع الكاتبة آمنة الرميلي لأنجاز شريط النافورة. وساحاول فيمايلي تفسير هذه النقطة.

يبدأ الفيلم بشد المشاهد إلى الفترة الزمنية المقصودة التي تعني صناعه وهي سنة2013. سنة اغتيال النائب الشهيد محمد البراهمي ، وتعرض مشاهد لوقفة احتجاجية للمطالبة بالكشف عن قتلة الشهيد شكري بالعيد ثم تتصاعد الأحداث إلى اعتصام الرحيل وصدام القوى الوطنية سنتها مع الحكومة المكلفة التي تنتمي للحزب الذي يعارضونه وإسقاطها.

هذا إذن الإطار الزمني الذي يضعنا مباشرة أمام معضلة الفن والتاريخ/التأريخ. يعني أن الفيلم حدد لنفسه مرجعية تاريخية يصعب الانفصال عنها مهما حاول صناعه ذلك ، وأنهم مجبرون على التجديد في لغتهم السينمائية داخل حدودها.

الحكاية تتمثل في قصة ثلاث نساء (جليلة، سلوى، مروى) تواجه كل منهن انهيارا في قصتها مع شريكها. الأولى يخونها زوجها رفيق النضال الطالبي وسنوات الالتزام السياسي ويخون مبادءهما، الثانية ينقل لها مرض السيدا متعمدا ثم يموت، والثالثة تتزوج عرفيا ثم تقاوم قرار شريكها المتطرف بالذهاب إلى سوريا.) تجد كل منهن طريقها إلى نزل”البيت الذهبي” وهو نزل صغير في قلب المدينة العتيقة على ملك مدام جوزيت(أصلحوا لي الإسم إذا كان خاطئا ) وتتشابك مصائرهن هناك ليكن سندا  لبعضهن ومصدر قوة لمواجهة مصائرهن.

القصة تبدأ بداية جميلة حتى نظن أن الفيلم سيسرد تفاصيل تلك العلاقات ويحفر في تاريخ الشخصيات لنعرف البدايات والبيئة التي خرجت منها البطلات، وكل ما كون شخصياتهن ومراحل تصاعد أزماتهن وما أثّر على اختياراتهن ، غير أننا نتفاجأ بأن السرد السينمائي التقليدي يتوقف لفتح باب التجريب عندما تعامد التخييل السينمائي الفني مع الوثيقة التاريخية، إذ عُرضت على الشاشة مشاهد من اعتصام الرحيل الحقيقي مع صورته التخييلية في الشريط. من خلال مشاركة جليلة أولا فيه ثم التحاق مروى وسلوى بالجموع في ساحة باردو الشهيرة بجانب النافورة. هنا يبدأ المشاهد العارف بالتململ  محاولا البحث عن نقاط يرتكز عليها ليعيد توزيع أوراقه من جديد ويطرح على نفسه سؤال رئيسا: أين أنا؟ هل ما زلنا سنتابع قصة النساء اللواتي نجح في ربط صلة تعاطف معهن من بداية الفيلم أم أنني سأتابع شريطا وثائقيا يؤرخ لاعتصام الرحيل (على طريقة أفلام الجزيرة الوثائقية)؟

لا تتوقف محاولة التجريب ، من وجهة نظري عند هذا الأمر لأننا سنشهد انكفاء الفيلم على ذاته من خلال مشهد ميتاسينيمائي تخرج علينا فيه المخرجة سلمى بكار في ديكور مشهد من مشاهد الاعتصام داخل الفيلم لتدلي بشهادة سريعة عن مصائر شخصياتها وتعليق على ذكرياتها من الاعتصام الحقيقي بل تبرز لنا داخل الفيلم الكاتبة آمنة الرميلي (التي شاركت في كتابة السيناريو) كواحدة من الحاضرين في الاعتصام مع بقية القوى الناعمة التونسية ،  إلى جانب السياسيين والمواطنين العاديين.

لا يرى المشاهد ما جرى للبطلات وما مصائرهن ولكن تخبره المخرجة بذلك في خطاب مباشر تهدم فيه الجدار التخييلي ثم تتكلم عن مصير الاعتصام الحقيقي.

تكسير التخييل ومزجه بالوثائقي كان فكرة جيدة إلى حدّ ما بما هي محاولة تجريبية تجديدية لكن هل كانت صالحة للموضوع؟ هذا ما أردت الوصول إليه من خلال حديثي في البداية على التحفة الفنية السينمائية التي قدمها الان ريسنيه وآلا نروب غرييه.

فإحياء حدث تاريخي يضعنا مباشرة في صدام مع الواقع ومع المرجعية التاريخية التي تقيدنا بزمان ومكان وشخوص فاعلة  وتفرض علينا قيودا عائدة إلى طبيعتها. مما لا يفتح بابا واسعا للقدرة على التخيل أو المساءلة الذهنية أو التأويل .

المخرجة نفسها صرحت بهذا عندما قالت” كيف عشت أحداث اعتصام الرحيل سنة2013 ظهرلي من واجبي كمرأة سياسية سينمائية باش نعمل فيلم يحيي ذكرى فيها برشا ألم.”(المصدر:موقع كابيتاليس.كوم)

وهذه المعايشة الذاتية للحدث التاريخي وتحمل الشحنة العاطفية التي رافقته أوقعت الفيلم في أخطر ما يمكن أن يكون من الهنات: المباشرتية السياسية. إذ تحول الفيلم في نصفه الثاني تقريبا إلى دعاية سياسية لكل ما تؤمن به المخرجة من أفكار.(يمكن أن تتبناها أيها القارئ أو تعارضها) لكن الثابت أنها أسقطت نسق الفيلم وأضرّت به وحولته إلى اجتماع شعبوي تتطرح فيه شعارات ساسية حفظناها من كثرة تكررها (اهيّا..أهيّا المرا التونسية)، هذا التركيز على المرأة ونصرتها هو موقف مشروع وله بكل تاكيد مبرراته وهو حق من حقوق صناع الفيلم  لولا انّ الحقبة التي نعيشها(2025) تتطلب من المبدعين التركيز من وجهة نظري على الإنسان المسحوق (رجلا كان أو امرأة) هذا الانسان الذي طحنته يد الغلاء والفقر وتغول المؤسسات المالية وسوء توزيع الثروات في البلاد حتى سحقت أحلامه وتسلط بعضه على بعض بالقهر والتجبر(العلاقة الصدامية بين  المرأة والرجل خير مثال).بل ورمت خيرة شبابه إلى أمواج البحر باحثين عن الهجرة من ذلك الوطن حتى لو كان الثمن حياتهم

هل من المسموح لي أن أقول إن  الفيلم تأخر عن فترته الزمنية(2013) وكل ما مثلته تلك الفترة؟؟؟ لا أعرف. هل من الجائز أن أقول إن الحديث عن مرحلة خطيرة من تاريخ تونس(حكومة الترويكا ) كان يتطلب أكثر جدية في الحسم في الأدوات السينمائية التي سيقع بها معالجة تلك المادة التاريخية؟ فالمشاهد كان سيقبل من سلمى بكار شريطا وثائقيا صرفا تقول فيه كل ما أرادت قوله وأنا متأكدة جدا أن ذلك الشريط الوثائقي كان سيحدث ضجة وسيحقق إيرادات مالية كبيرة جدا للشركة المنتجة.لأن المشاهد متعطش فعلا إلى العودة إلى تلك الأحداث وتأملها من جديد، فتسارع وتيرة الأحداث اللاحقة جعلته في لهاث مستمر وراءها غير قادر بالتالي على الإنكباب على تلك المفاصل التاريخية المهمة وتأملها بتركيز وتأنّ وتفكيكها ومحاولة فهما.

هل من المسموح لي أن أقول إنني(كمشاهدة) احببت النساء الثلاث وتمنيت فرصة أكبر  لمعايشتهن ومتابعة نموهن وتطور تجربتهن داخل السرد التخييلي أكثر من استمتاعي بترديد الشعارات المتكررة؟

لقد كان من اليسير جدا رؤية النساء الثلاث المختلفات على أنهن ثلاثة وجوه لتونسنا الحبيبة التي نحب والتي  تحترم الاختلاف وتتكون منه  مما يزيد عمقها وجمال حضورها. ثم  هل من المسموح لي أن أقول إنني استمتعت بألوان فساتين سلوى اللعوب أكثر من استمتاعي بألوان الراية الوطنية وهي تنتشر في الاعتصام وعلى أجساد المعتصمين والمعتصمات؟ تركيب السياق السياسي التاريخي التوثيقي على السياق التخييلي شتت تركيزي ونقلني إلى منطقة لم ترحني وأنا اشاهد الشريط رغم استمتاعي بأداء المبدعة ريم الرياحي التي بدات تنضج وتشعّ على الشاشة حتى تلتهم بحضورها الطاغي وسلاسة حرفيتها كل من شاركها مشاهدها.، فلا يرى المشاهد غير جمالها وجمال تمثيلها.

الممثلة الناشئة رنيم العلياني كانت هي الأخرى جميلة جدا في تمثيلها السهل الممتنع حيث أحسنت نقل مختلف الحالات النفسية التي عانتها الشخصية من خوف وهلع وحزن وفرح وانتقلت بين تلك الحالات بسلاسة ولطف يكاد يجعل المشاهد يشعر أنها ابنته أو أخته.

كل الممثلين تقريبا اجادوا أدوارهم وأثبوا حسن اختيار المخرجة باستثناء الممثلة أميرة درويش التي ظلمها السيناريو في اعتقادي وحدد أداءها حين لم ينبش في ماضيهاولم يساعدها في الإمساك بتاريخ الشخصية وكل تفاصيلها والتغذّي من شحناتها العاطفية ومخزونها  النفسي لتصرف منه على الدور. فجاء تمثيلها للأسف مخييبا لانتظاراتنا فيه صراخ ومبالغة في مشهد المرأة اللعوب بالحركات ونبرة الصوت غير المناسبة وقسمات الوجه التي تخرج أحيانا عن سيطرة الممثلة فنشعر أنها “مومس مزيفة” –إن جاز التعبير. كان يمكن للممثلة أن تنهل من إبداع الجميلة الرائعة هيلين كاتزاراس وتأخذ منها دروسا في فن الأغراء بحركة بسيطة من شفتيها أو غمزة بالكاد تظهر إلا لمتلقيها دون حاجة إلى المبالغة التي تقطع حبل الاستمتاع بمشاهدها أو دون أن تقوم الممثلة برد فعل مفاجئ أو ترفع نبرة صوتها أو تنغمها في غير موضعها.

أختم بان اقول إنني لن أكون وفية لأفكاري إذا لم أسجل استغرابي من وجود مدام جوزيت صاحبة النزل في الفيلم. فشخصية الاجنبية العجوز(فرنسية على الأرجح من لغتها) التي تمتلك نزلا عتيقا في تونس كان سيكون  لها مبررها الدرامي لو كانت أحداث الفيلم في الخمسينات مثلا أو قبل ذلك أو بعيد ذلك بقليل بحكم أن الكثير من المعمرين صمدوا بعد الاستقلال ورفضوا الخروج من تونس بعد أن أحبوها، او حفاظا على مصالحهم. ولكن أن نسقط هذه الشخصية على فيلم تدور أحداثه سنة2013 وأن نجبر المشاهد على حالة حنين لم يعد قادرا بالضرورة على عيشها والشعور بها سنة 2025 ، بل ونجعل تلك المرأة ونزلها القديم الجميل واحة السلام والأمان التي تلتقي عندها بطلات الفيلم وينطلقن من نزلها لتقويم ما تأوّد من حياتهن فهذا يدفعني دفعا إلى التساؤل عن قصديّة خلق مثل هذه الشخصية بل وأذهب في الأمر بعيدا  لإثارة قضية التمويل غير الذاتي الذي يقع تحت طائلته مخرجونا فيفتحون له بذلك نافذة خلفية لتمرير الأجندات المختلفة(أجندا الووك، مثلا)

.

الشريط يستحق أن نذهب لمشاهدته لأن  المشاهدة والمتعة والتساؤل والتفكير هي متع ذاتية وتجارب فردية تستحق أن تعاش بشكل فردي. ولأنني لا أؤمن بالوصاية على الأفكار أذكركم بأن هذه القراءة هي قراءتي الشخصية قدمتها لمزيد التفاعل والنقاش وإثارة التساؤلات ، لا لأصادر رأي القارئ أو أشكل موقفه الخاص من الفيلم. وهذا هو الهدف من النقد الفني عموما.

متعة المشاهدة لها طبقات ودرجات عمق ولا ننظر إلي أية طبقة منها بتعال. منشوري  النقدي هذا هذا هو فقط تكريس لحرية كل مشاهد في كيفية تلقّي العمل الفني وتاويله. إذ لا وصاية في الفن والفكر.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :