- الأديبة شريفة السيد
هذا الشاعر يقطر عذوبة ويتهادى قلمه رقة وعمقا في آن.. فيما يشبه زهرة بنفسج حزينة تمسك مسبحة فيروزية عتيقة باهظة الثمن…!

إنه (ناجي العصر الحديث) بقلمي
الشاعر الفذ الأريب ،، وكما أرى لاميته الأخيرة( كُلَّما أحبَبْتُ شَيئًا أَفَلا) في ثوبها القشيب….
القصيدة (من بحر الرمَل) يقول فيها :
كُلَّــما أحبَبْتُ شَيئًا أَفَـــــــلا
فالأسَىٰ بي لَمْ يُغــادِر أََمَـلا
ومَتَىٰ آنَسَ قلــبي غَرَضـــــًا
يَخْشَ جُرحًا نازِفًا ما انْدَمَلا
هلْ إذا أحبَبْتُ حُزني مَثَـــلًا
رَحَلَ الحُزْنُ كَمَنْ قَد رَحَلا؟!
ضَعضَعَتني شِدَّةُ الدهرِ وكَـمْ
كنتُ قُدَّامَ الدَّواهي جَبَــــــلا
كُلُّنـــــا للدهرِ يَبقَـــىٰ هَدَفـــًا
مِن ضئيلِ الشانِ أو إبنِ جَلا
شعر /. محمد ناجي
.
وعندما قرأت هذه الدُرَّة الفريدة ، وجدتني رغما عني أقول عنها :
كنت أحسبك تنتمي للمدرسة الرومانسية،. وتبارز إبراهيم ناجي وحده، لكنك؛ تفوقت على جماعة أبوللو كلها، وأفحمت فحولتهم ، وصعدت فوق كل أجوائهم، بشعر يشبه زهرة البنفسج الحزينة ، في مناجاة للنفس أثبتت شاعريتك الفذة، وقدرتك على استجلاب المفردات المعبرة عن الحالة، وأن لديك جاهزية شديدة للتعبير عن كل مشاعرك سواء في الفرح أو في الحزن أو غيرهما ،،
هذه الجاهزية والاستعداد الدائم لإشهار قلمك وانطلاقه المستمر من غمده نحو فضاءات عذبة، جعلت حروفك طيعة، وتشبيهاتك لينة، ومفرداتك مسبحة ّ فيروزية أصيلة مضيئة تجري بين أصابعك.
…
ثم إن صخب موسيقى بحر الرمل_رغم هدوءه_ تتوحد مع القافية، لتعلن في شكل صراخ قوي عن أنين مكتوم ، وروح لا تحب الآفلين…!!
فأية مفارقة بين بحر عروضي تفعيلاته في نظري هادئة ومفردات تنضح أسىً وحزنا، تصرخ حين يتلوى صاحبهما كمدا..؟
،
والحقيقة أن المطلع في حد ذاته إبداع في ابداع في ابداع ، ناهيك عن أنه يحكي قصة معاناة طوووويلة في أربع كلمات
(كلما أحببت شيئا أفلا)
فلن يفلت تفكير القارئ من أسر الآية التي تخص سيدنا إبراهيم عليه السلام.. حين أظلم الليل وغطَّاه ناظرَ قومه؛ ليثبت لهم أن دينهم باطل، وكانوا يعبدون النجوم. رأى إبراهيم عليه السلام كوكبا، فقال -مستدرجا قومَه لإلزامهم بالتوحيد- : هذا ربي، فلما غاب الكوكب، قال: لا أحب الآلهة التي تغيب (الآفلين).
،
فربما _وعن غير قصد_ نجد هنا إشارة ورمزا إلى سورة الأنعام – الآية 76 ، إذ قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)} صدق الله العظيم.
،
لكنه اللاوعي اليقظ ، هو الذي حرك المخزون الديني بداخل الشاعر، وجعل المعادل الموضوعي متوفراااا بلا أي مجهود عضلي منه.
،
هذه اللمحة الدينية والرمز القرآني دفع النص منذ البداية إلى أفقٍ آخر غير ما ظهر منه من معان. وحملنا معه بسرعة البرق إلى تلك الآفاق، لنسبحَ في ملكوتٍ مغاير، يعجبنا ويروق لنا. فنتعاطف مع الشاعر بنفس مقدار تعاطفنا مع سيدنا ابراهيم.
،
إنه تمهيد ذكي من الشاعر ، يجعلنا نصدق ونسلم بكل ما سيأتي في النص بعد ذلك من أحداث.
..
ثم أية روح هذه التي تحتويها نفس كانت (جبلا )..؟ وأية مقدرة على فرضية حب الحزن والائتناس به ؟
(هل إذا أحببتُ حزني مثلا؛؛
رَحَلَ الحُزْنُ كَمَنْ قَد رَحَلا؟! )
سؤال في غاية الأهمية، قد لا تجد له إجابة ترضيك ولو جدلا.
وأية قوة هذه التي تجعل رهيف الحس يتحمل صروف الدهر ودواهيه، وقد (ضعضعته) شدة الدهر؛ من أجل تحقيق الأمل ولو لمرة واحدة في حياته.؟
إنه ناموس الحياة، وناقوس الرضا بالمقسوم. والإيمان بأن القادم قد يختلف وإن لم يقلها صراحة.
،،
وكما بدأ الشاعر بفكرة الألوهية وأنه لا يُحبُ الآفلين، ختم النص ببيت تجري في دماءه روحُ صوفيٍّ يحاول أن يخشوشنَ بعد رهافة، ويرتضي بعد رفض، ويقنع نفسه بواقع أليم، متقبلا الأمر بلا أدنىٰ تفكير في التمرد، مثله مثل جميع بني آدم؛
(كلنا للدهر يبقى هدفا)
مؤكدا الحقيقة الكونية المُسلم بها: جميعنا أمام الدهر ضعفاء وكلنا في مدار واحد، لا حيلة لنا مع الأقدار.
،
نصك يا ناجي خرج من رحم المعاناة. تستطيع به أن ترفع رأسك عاليا، فخرا واعتزازا، لما فيه من شاعرية مرهفة ، وحنان بالغ نفتقده في قصائد قرنائك هذه الأيام .
وتأتي المصداقية في مقدمة مسوغات هذا الجمال. لتقف هي الأخرى بمحازاة الصور الفنية، قائلة بصوتها اللؤلؤي:
هنا شاعر يصوغ الفن بحروف من نور، ويخبز الفرح من دقيق الحزن الدفين ، مستشرفا الأمل_وإن كان ضئيلا_ من طيات الألم؛ كي تستمر الحياة.
،
هذا هو ناجي العصر الحديث ،، حين يصبح العنوان جزءا من نسيج النص، كما كان يحدث في التراث العربي القديم … فكثير من شعر احمد شوقي على سبيل المثال وجدوه غير معنون، وعند فهرسة مخطوطاته وإعدادها للنشر بعد وفاته، اضطُر الباحثون أن يستدلوا على النصوص، باستخدام الشطرة الأولى من كل نص كعنوان له.
وهكذا فعل محمد ناجي_إلى الآن_ ولست أدري إن كان سيُعنونه فيما بعد عند النشر في ديوان، وبماذا سوف يسميه، ما أوقعني في حيرة أنا أيضا حين حاولت وضع عنوان له، لأنه ليس بالأمر السهل.
.
أما عن تناول القاموس الشعري لدى محمد ناجي وكيفية صياغة الجملة الشعرية والبناء الفني فهذا كله يحتاج إلى جلسة أخرى.
وأخيرا وليس بآخر
هذا النص قد بلغ من الإيجاز والتكثيف حد البلاغة، وبلغ من التعبير والتصوير حد البيان، وهذا لا يأتي إلا من شاعر متمكن يشار إليه بالبنان. ودمت مبدعا 🙂