البشير الجلجلي
في “ظلال …والشمس غافية” لسوسن العوني
يهدف الشّعر الحديث منذ نشأته إلى البحث في حياة الإنسان وهو يرتقي بذاته نحو الكمال الفنّي. وقد ركب شعراء الحداثة النصوص عبر عربة قادمة من غرب صنع تاريخا أدبيّا ازدهر بعد فعل الحداثة فيهم ، فكتب بعضهم الواقع وتواءم معه وحلّق آخر بأجنحة الخيال اعتقادا منه أن الإنسان هو روح مجنحة. وغيرها من المذاهب التي تلقّفها العرب بعد صدمة الحداثة فركب بعضهم تيار الرومنطيقيّة خاصة مع جبران وجماعته في أمريكا وسار رواد ما بعد الرومنطيقية في مجاز تيار نص التفعيلة مع نازك الملائكة وبدر شاكر السياب ولكنهم عادوا جميعا إلى سوزان برنار وكتابها المرجع “قصيدة النثر” فساروا مع أدونيس نحو هذا الشكل الجديد دون وعي وليتهم ما فعلوا!
فقد تهاوت القصيدة الحديثة حتى كادت تُسقط ركابها من علٍ ولم يتساءل أي أحد منهم: “ما المطلوب من القصيدة: الشعر أم الحداثة؟” كما تساءل فتحي النصري في مقدمة “منمنمات”.
وسار العرب حرثا في النصّ الشعريّ فتقرأ نصوصا لا تعرف لها شكلا ولا معنى ولا غاية، يقول عنها صاحبها هي قصيدة النّثر. ولم يستفيدوا من مجلة شعر التي فتحت بابا كبيرا في هذه القصيدة مما أنتج نصوصا تملأ القصيدة الحديثة بطبقات المعنى كنصوص أنسي الحاج والماغوط ودرويش إلا أنّ الشعراء بعد مجلة شعر ساروا على غير منهج .فركب بعضهم القصيدة النثرية “زقفونة”…
لكن رغم هذا الحدّ في الحكم كما خاطبنا به محمد لطفي اليوسفي أنّ الكتابة تعتبر “ضربا من الذود عن الكلمات وحماية لها”، فإنّ بعض النصوص المعاصرة قد مارست وعيا أجناسيا مغايرا للنص الشعري دون ادعاء التبريز فيه ولا الفتوحات الشعرية.
ولم تكن نصوص سوسن العوني التي أطلقت عليها عنوان “ظلي… والشمس غافية” سوى لحظة أولى لنصوص دافقة قادمة قد يكون النثر تاليها وقد يكون الشعر هو المرمى القادم… أليست “قصيدة النثر” نفسها تحمل وجهين: قصيدة/ نثر. وهما وجهان لعملة واحدة: النص المعاصر لسوسن العوني في رحلة شاقة وهي تبحث عن ظلها .والظل هو قَفا الشمس كما الشّعر هو قَفا النثر.
صورتان لغرق المعنى رغم جمال الطيف تقول في “نجم أشواقي” (ص 40):
وقسوة الغرق
ونشوة الأحزان
تغسلها مدامعي
وجمال الطيف
وهي جديلة متناقلة (قسوة/ نشوة/ جمال)، تحملك إلى أقاصي (شمس غافية) بين الألم والأمل تقول “في قرار الشمعدان” (ص 11)
الألم موغل في هشيم أحزاني
(…) قطرات شمع ذائب بنار
ليست نارا في قرار الشمعدان
ألم نقل منذ البداية إن القصيدة أو ما يعرف عنها بقصيدة النثر قد تلقّت صفعات موجعة من شعرائها فحادت عن طريقها وهو ما لم تستطع العوني تلافيه في هذا المصنف الذي تراوح بين روح السطر الشعري الموصول بالتفعيلة والنصّ النثري بعدما أعلنت صراحة أن “الفكرة حقيبة” تحمل فيها ما لذّ من مذاقات الشعر تقول (ص14):
“الفكرة حقيبة حقيبة الترحال أينما سرت لم تتركني… عقلي يعجن أرق الليل بهدوء يعتلي الشغب بلا وجل… مخدرا تحت وطأة الحروف… على حافة السطر جثة ورقية تحارب على رصيف الشبق فكرة هاربة على هامش معتوه على لسان الشعر يناغي شغفي العقيم… هنا حروفي”.
والحقّ أن نصوص العوني تحتوي مستويات مختلفة شكلت طبقات شعرية متوازيّة لبناء الوحدة النصية المتصلة حسب “أنسي الحاج” “ بالإيجاز والتوهّج” (مقدمة ديوان لن ص 16).
وهي وحدة تنضوي تحتها وحدات صغرى شكلت المعمار النصي لـ “ظلي… والشمس غافية” الذي قال عنه مقدم الكتاب الأستاذ بوبكر عموري ص 8 “إن الشعر لدى الشاعرة سوسن العوني رؤية فلسفية ورؤيا فكرية وبحث باللغة في مفارقات الحس والإحساس”، رغم أن الفلسفة أبعد عن هذا الديوان فهي أقرب -حسب رأيي- إلى التأملات الذاتية التي استخرجتها من باطن تجربتها. وهو ما شكّل هذه الوحدات النصية الصغرى في نصها حسب نزعاتها الذاتية وفق عبّرنا عنه بالطّبقات:
1- الوحدة الأولى: الأنا-الجنون: وجهي ليس هو / بيني وبين الجنون فكرة / يا من علّمتني الرفض / خطاب من تحت أنفاسي / نجم أشواقي / لما يعاودني طيفك / لا تصدقني / شتاء مدينة وجداني / تراتيل عشقي والزمن / ليلتي الأخيرة / ومازلت أكتب / أكتبك نصرا يا فرحي / أرض جنوني. ومحصّلتها 14نصّا تبدأ بالجنون وتنتهي بالجنون في رحلة عبر غياهب الذاكرة. أليس الجنون في تعريفه عند “ميشال فوكو” “هو نمط من الفكر المستقل وشكل من أشكال الوجود الأصيل وهو ينطوي على قيم جمالية ونظرة للإنسان والحياة والعالم”. وهو ما حاولت العوني البحث فيه هروبا من واقع تردّى.
2- الوحدة الثانية: الأنا-الفكرة: في قرار الشمعدان / بلا ملح / الفكرة حقيبة/عذابات / حتى يبتسم القمر / مواقيت الذاكرة / صوت الحرف / سؤالان / الشمعة الحالمة / سيدتي الحزينة / يا… أيام الطفولة / صدى / تساؤلات / ليل / رسالة حنين / عودة الربيع / صلوات للخيانة والفناء / قانون وصوت وكتاب / العودة / وشم / صهيل الفرح / العصفور النبي / كبرياء. وجماعها 23 نصّاحول الفكرة . والفكرة هي التصور الذهني ويرادفها المعنى لأن المعنى هو الصورة الذهنية من حيث أنه وُضع بإزائها اللفظ كما ورد في تعريفات الجرجاني. وهو- لعمري- يتوافق مع ما ذهبت إليه الشاعرة من صهر بين الأنا والنصّ، حتى كدنا نقرأ الذات تتمطّى من حروف “ظلي…”.
3- الوحدة الثالثة: الأنا-الوطن: أبناء قرطاج / بوحيات / أنت السفينة أنت الميناء / انتظار. وهي أربعة نصوص شكّلت علاقة الشاعرة بالوطن لا بمفهوم رفاعة رافع الطهطاوي الذي يقول عنه “عُشُّ الإنسان الذي فيه درج ومنه خرج، ومجمع أسرته ومقطع سُرّته” بل هو الوطن الذي تكتبه القصيدة و يتواسع من خلال ذوات الشاعرة.
هي ثلاث لوحات غنائية متعددة ولكنها متنافذة ترسم الظل وهو يمارس لعبة الظهور والتّخفي عبر أشعة الشمس الغافية، وغفا غفوا نام أو نعس والغفوة هي النومة الصغيرة وإذا غفت الشمس كيف تصنع ظلا والظل هو في التعريف الفيزيائي هو انعكاس للضوء؟ وإذا غفت الشمس كيف يعيش الكون في ظلام. ربما لطّفت الشاعرة ذلك فجعلت الكون الذاتي والجمعي يعيشان في الظل، بحثا عن الحقّ والحرية (الشّمس). أليست الشمس وهي غافية قد أصابها الكسوف وربما فقدت نورها بواقع تحدث عنه منذ البداية مستعيرة وجهها له “وجهي ليس هو “ (ص 12) ولكن طرفة بن العبد يجيبها في مذهّبته الداّلية:( من الطويل):
ووَجهٍ كَأنّ الشّمْسَ ألقَت رِداءَهَا عَليْه نَقِيّ اللّوْنِ لَمْ يَتَخَدّدِ
والشاعرة العوني إلى ذلك ترسم نصّها الشّعريّ وفق طبقات شعرية متوازيّة لبناء الوحدة النصية المتصلة حسب “أنسي الحاج” “ بالإيجاز والتوهّج”.