بقلم :: سالم الهمالي
كل محاولاتها لاثارة انتباهي لم تفلح، بالرغم من عشرات المرات التي ادخلت ثم اخرجت حوائجها من الجراب الذي دخلت الى صالة الجلوس وهي تتأبطه، وتتغنج به، كما تفعل البنات وهن يحاولن إظهار بلوغهن او نضوجهن. جلست على كنبة ليست بعيدة عني، وهي ترمقني، أزاحت الجراب عن كتفها، وألقت به الى جانبها، شيئا فشيئا اخرجت منه، الشاطر والمشطور وبينهما طاجز، او أسف ( تن)، قنينة ماء وعلبة صغيرة يبدو ان فيها قطع لفاكهة المانجا. وانا بين كتاب اقراءه، وال ( آي باد) على يميني، و ال ( آي فون) على يساري، استرق النظر اليها احيانا، وأشاهد ذلك الامر المحير، مرات ومرات، لعلها كانت تود ان اسألها ؟! لكنها لم تفعل، وانا لم أسأل.
في الصباح، وجدت الجراب على طاولة الافطار، بجانب المكان الذي اعتدت ان اجد عليه افطاري، تمعنت فيه ولم ألقي له بالا، وذاك ما يبدو انه أغاظ بنتي الصغيرة، التي يبدو انها وضعته خصيصا لأراه. صاحت … سيدي صباح الخير … يبدو انك نسيت ؟
صباح الخير اسيا، نسيت ماذا ؟!
الا تعرف اني اليوم ذاهبة في رحلة مدرسية الى مصانع الشكولاته ( كادبري).
او … سامحيني … نسيت
الحقيقة اني لم أكن ألقي للامر أهمية كثيرة، ونسيت على كل حال.
الآن عرفت، لماذا لم تلبس ملابسها المدرسية الرسمية، ومحاولاتها ليلة الامس وهي تداعب وجبة غذاءها في الرحلة. المثير في الامر، هو كيف استطاعت ان لا تأكلها، وهي التي تحب الاكل، مع كل المرات التي اخرجت وادخلت فيها تلك الوجبة الى جرابها. جذبت الجراب، فتحته، وأخرجت محتوياته، اقلبها، انا هذه المرة، وامام ناظري شريط طويل من الذكريات.
في ستينيات القرن الماضي، كانت الرحلة المدرسة حدث ننتظره بفارغ الصبر، مرة واحدة في العام، نذهب فيها، تلاميذ ومدرسين وعاملين الى غابة بوخريص مشيا على الأقدم لمسافة ثلاثة كيلومتر، طابور، الواحد وراء الاخر، نلهو ونلعب ونغني بفرح غامر يملأ الدنيا كلها. كل منا يدفع ربع جنية او نصف دينار قسط الرحلة او ( الزردة)، ونتجهز لها بالكثير من القصص والحكايات، بالاضافة الى ما يُطلب من كل واحد فينا، كلنا يأتي بملعقة ( كاشيك)، وكوب ( كوبايه)، والبعض اواني ( سونيه) وغيرها من المستلزمات. ينطلق الطابور في الصباح الباكر من امام المدرسة، عبر سواني وحقول القرية، جنت عمران على اليمين، وأم القصر على اليسار، ثم جنت عباس، وجنت الرأس، قاصدين العين او غابة بوخريص. حينها كانت الغابة كثيفة، نتخيلها كغابات السافانا، التي نقراء عنها في الكتب ولا نعرفها، الا بغابتنا الوحيدة، التي إنشاءها الكشاف، وأصبحت مقر أنشطتهم.
عينها الطبيعة، وماءها الساخن كنّا نراها كشلالات نياجرا، وخرير الماء له وقع في الاذان لم تمحوه السنين. نتوزع الى مجموعات حسب ما أعد له، ونأخذ امكنتنا تحت أشجار السرول الظليلة، نفرش الارض ونضع حوائجنا، وننطلق في إرجاءها الواسعة.
الحاج محمد يقف على طناجر المكرونة، والحاج عبدالسلام يعد وجبة الفطور من التن والبشماط، والمدرسين يتوزعون بين من هو حكم لمبارة كرة القدم، الى من يشرف على مسابقة شح الحبل. التحذيرات تلو التحذيرات بعدم الاقتراب من الجابية، لا تفلح في ثني المغامرين من القفز من على حائطها ( سالطو) في مائها العميق، لتصل أسماءهم تباعا الى المدرسين الذين يقومون بالواجب نحوهم !!
ذلك اليوم نرى فيه المدرسين يلهون ويلعبون، وحتى يغنون، امر لم نعهده عنهم خلال العام، حيث يكون المعلم مثال الوقار والانضباط. نترصد حركاتهم، وتسجلها ذاكرتنا، رقص الاستاذ الأمين، وغناء الاستاذ محمد ( أهل الجفرة)، نوادر لايجود بها الدهر الا مرة واحدة في العام. تسلق الأشجار، الجري، الغناء، الرقص، مسابقة الخطابة، والمسرحية، وأنشطة كثيرة يحتويها ذلك اليوم، لا يعكر صفوها الا جرح بسيط، او احيانا لدغة عقرب، يسارعون بنقل ضحيتها الى الفرميلية ( العيادة) في القرية حيث يجد عمي الطاهر ( رحمة الله) ينتظر وإبرة مضاد السم جاهزة بعد ان يغليها في الماء، ويغسلها بالسبيرتو ( الكحول) للتعقيم.
شهور قبلها ننتظر ونتكلم على تلك الرحلة وشهور بعدها نستذكر وقائعها بكل نشوة وحبور.
تأسفت كثيرا اني لم انتبه ليلة الامس الى حبيتي ( اسيا) ذات الثمانية أعوام، وهي تحاول جاهدة ان تسترعي انتباهي الى رحلتها، وتخيلت المرات التي قلبت فيهاالكاشيك والكوبايه في الليلة التي تسبق رحلتنا.
آه .. نسيت ان الشاطر والمشطور في تلك الأيام كان شحيحا، ان لم يكن معدوما، لكن ( الدحية) كانت ملازمة لنا، تطبخها امهاتنا، بعد ان نترصد رميها من الدجاجة بعد توحويح ومكاكات نعرف كنهها.
ينتهي ذلك اليوم الجميل، نغسل حوايجنا، ننظف المكان، ثم ننتظم في طابور طويل في طريق العودة … منشدين:
مشينا وجينا سالمين … ببركة رب العالمين
الان ان في احر الشوق، لانتهي من العمل، وارجع الى البيت، وسأكون في انتظار حبيبتي اسيا، من رحلتها الى كادبري، لتحكي لي عنها، ونغني معا … مشينا وجينا سالمين … ببركة ربي العالمين …