مـــدارات الشجــــــن

مـــدارات الشجــــــن

 بأطراف أنامله الرخوة وأظافـره الطويلة بغير عناية ، أدار زر المذياع .

راح الراديو يبث شفرته ؛ زجزاجية الصفير ، لعله يجد من بين رموزها برنامجاً ، أويسمع موسيقى وغناء يبعث فى قلبه ذكرى لحظات ماضية . أو ينصت خاشعاً لتلاوة شيخ من شيوخ زمن وحيد قد لايأتى غيره …

تَـِــكْ … شيششيشش شااااااااااااا شاشششش ووووووووـشـشـش

رنْم الصوت واضحاً رخيماً ، وفى خلفيته ، تماوج وشيش ضعيف وصفير جيئة وذهابا .

أيها السادة.. إلى قصر رأس التين ..

هنا قصر الملك  ..أيها السادة السلام عليكم
ورحمة الله.. هذه ليلة جديدة مباركة من ليالى شهر رمضان المبارك . نذيع على حضراتكم طواله القرآن الكريم والأحاديث الدينية .التي تُلقى وتُردد هنا فى قصر رأس التين العامر ، حيث يستضيف الملك العزيز شعبه العزيز بجميع طبقاته وهيئاته . يَفِدون هنا من كل صوب، ويجتمعون ضيوفاً على الفاروق . وقد وصلت إلى ساحة الملك الآلاف العديدة من سكان الثغر والمصطافين ،وأخذوا أماكنهم ، يشربون المرطبات ، وقد أخذت الأضواء الكهربائية مختلفة الألوان، تنعكس على مقر الفاروق . وهم الآن فى انتظار أن ينقل إليهم صوت القارىء تلاوة لسورة النجم وسورة التين . والقارىء اليوم هو الشيخ مصطفى إسماعيل  وسيستهل تلاوته بقوله عز وجل ” ولله ما فى السموات وما فى الأرض ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى . الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللَمَمّ إن ربك واسع المغفرة”. أيها السادة الشيخ مصطفى إسماعيل .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم    ….   بسم الله الرحمن الرحيم

¯ ¯ ¯ ¯ ¯

تِــك  … شيـشـشـشش وووششششششششااااااااااااااااااااا   شيـشـشـشـشـشـشـش

منذ سافرت زوجته فى رحلتها الأبدية والتى مر عليها أربعون عاماً. قرر وقتها أن لا يتزوج بعدها أبداً . ورحلت ابنته الكبرى مع زوجها إلى أقاصى الصعيد . وهاجر ولده الكبير الى مدينة البترول الخليجية مع زوجته وأولاده .لايزوره إلا كل عام  أوعامين أو ثلاثة أعوام . ولم يبق له إلا ولده الأصغر ذلك الذي أهداه هذا المذياع القديم ماركة “فيليبس” بزعم أن البيوتات الحديثة لابد أن يكون فيها ركن يضم هذه التحف القديمة . ومنذ أهداه المذياع ، صار يراه كل ليلة أو ليلتين أو ثلاث. ففي المساء يُقبل عليه ليلقي تحية المساء ويسأله سؤالاً ثلجياً متكرراً عن صحته، وهل هو سعيد من عدمه . وبعدما كان الابن ينتظر ليسمع إجابة الأب ، صار مع الأيام يلقي سؤاله ثم يهرول مسرعاً ملبياً نداء زوجته تلك البيضاء النحيفة ، مدمنة التباهى بما تملك هى وأخوتها وأهلها من مقتنيات . يلسعه صوتها وهي تتحدث عن فستانها “السينيه” وحذائها المصنوع من جلد التمساح وسعره الذى يتجاوز الآلاف ، وغيره وغيره من الأشياء التي تُباهي بها ولده الأصغر والذي بدعوى انشغاله بالعمل  ترك أمر تلبية رغباته واحتياجاته للخادمة الصغيرة . حتى أحفاده الصغار يرفضون بإصرار وكبرياء تنفيذ أوامره أو طلباته فهم يرفضون  تنفيذ أوامر أبيهم وأمهم فكيف يلبون طلبات الجَد … حتى بات الرجل يغلق عليه بابه ويلوك أيامه فى قراءة القرآن. و كلما هاج به الشوق ، فزع إلى المذياع ذي الوشائج ، يبحث عمن يُحيي لواعج نفسه المكروبة والمهمومة صباح مساء .

¯ ¯ ¯ ¯ ¯

تِــــــكْ …….  شيـشـشـشش شاااااااااااااااااااااااا شـشـشـشـشـش……….

أيها المواطنون   .. إليكم البيان التالي :

“اجتازت مصر فترة عصيبة فى تاريخها الأخير . من الرِشوة والفساد وعدم استقرار الحكم ، وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش، وتسبب المرتشون والمُغرِضون في هزيمتنا في حرب فلسطين، وأما فترة ما بعد الحرب ، وتآمر الخَونة على الجيش، وتولى أمره إما جاهل أو فاسد  ، وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا ، وتولى أمرنا فى الجيش رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم ، ولابد أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب .

أما من رأينا اعتقالهم من رجال الجيش السابقين فهؤلاء  سيطلق سراحهم في الوقت المناسب  ، ونعمل لصالح الوطن في ظل الدستور ، وأنتهز هذه الفرصة فأطلب من الشعب ألا يسمح لأحد من الخونة  وإن أي عمل من هذا القبيل سيقابل بشدة لم يسبق لها مثيل . وسيقوم الجيش بواجبه هذا متعاوناً مع البوليس  وإني أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم ، ويعتبر الجيش نفسه مسؤولاً عنهم ، والله ولى التوفيق” .

¯ ¯ ¯ ¯ ¯

اللواء  سعيد ، يعيش قريباً من قصر رأس التين . فالبحر عن يمينه وأمامه والقصر عن شماله ،وهو بينهما منذ خرج من الخدمة . شعر بأنه خرج فعلاً من الحياة . فلحظة خروجه من الديوان بعد انتهاء آخر يوم عمل له ، سها الحارسان الأبلهان اللذان يقفان بالباب عن تقديم تحية”سلام سلاح” للسيد اللواءالذي يغادر العمل نهائياً .
كان هذان الحارسان في السابق عندما يسمعان نفير السيارة  قادمة من بعيد، يؤديان تحية سلام سلاح بكل شدة والتزام ، حتى تقف السيارة أمامهما وتلامس قدم السيد العميد الأرض .

بعد انتهاء خدمته بوقت قليل . وُجه للعمل بإحدى شركات القطاع العام . ولأنه كان أثناء خدمته مسؤولاً عن المخازن وما تحويه من أدوات وأجهزة ومعدات ، فقد عُين مديراً للمخازن بعد تقاعد المدير السابق. وصار مسؤولاً عن مخازن موزعة فى محافظات عدة. وعن عمالتها ، هذا بخلاف ما كان منوطاَ به لتنفيذ ما يعرف  وقتها بـ” القرض الروسي ” الذي كان يقدم لمصر بفائدة 2% وفترة سماح 40 سنة ، مع تقديم الأموال والقمح  وتوريد المعدات بأنواعها لمصر.هذا في مقابل القرض الأمريكي الذي يفرض على مصر صرف القرض فيما تراه الولايات المتحدة ! تسلم العمل بعد وقت من  صدور حركة ترقيات بالشركة . كان لها بعض الضحايا من الموظفين الذين لم تكن لديهم مقدرة القفز فوق أسوار الترقيات أو السير فى دهاليز الشلل ، كانت المجاملة أمراً معروفاً لكنه مستتر. وأبرز ضحية لهذه الترقيات . كان الأستاذ “صيام ” الذي توفي بعد أيام من صدور تلك الترقيات . والتي تخطته بعناد واضح. هذا المحاسب هادىء الطبع دمث الخلق ، كريم ، سمح المعاملة . وديع تلك الوداعة المعروف بها أهل بلده نيلية المنبت. وجنازته كانت هائلة لم يُر لها مثيلاً. والسيد اللواء بعد أن أدى خدمته نظيفاً ، شريفاً، مجتهداً ، متفادياً بشتى السبل اللينة والصارمة كل ما من شأنه تلويثها. غادر الشركة متقاعداً مرتاح  الضمير! لأنه لم يمت أحدٌ من مرؤوسيه عقب صدور أي حركة ترقيات ، سوى اثنين فقط لا غير ؛ لكنهما ماتا بعد شهور عديدة.

¯ ¯ ¯ ¯ ¯

تــــِك  .. سسسششسششش   ووووو شـيـشـشش ااااااااااااا  شششش

من مبنى الإذاعة والتليفزيون إليكم بيان الرئيس جمال عبد الناصر إلى الشعب والأمة، أيها الأخوة: لقد تعودنا معاً في أوقات النصر وفي أوقات المحنة،  في الساعات الحلوة وفي الساعات المرة؛ ، وأن نتصارح بالحقائق  مهما كانت الظروف عصيبة، ومهما كان الضوء خافتاً.

ولا نستطيع أن نخفي على أنفسنا أننا واجهنا نكسة خطيرة ،  أيها الإخوة:  نحتاج إلى نظرة على ما وقع؛ أولها: العدو الذي كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب! وثانياً: العدو غطى فى وقت واحد جميع المطارات  ، ومعنى ذلك أنه كان يعتمد على قوة أخرى غير قوته!! وثالثاً: الدلائل واضحة على  تواطؤ استعماري  !!، هل معنى ذلك أننا
لا نتحمل مسئولية في تبعات هذه النكسة ؟ وأقول لكم بصدق
وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفى  – فإنني على استعداد لتحمل المسؤولية كلها، ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدوني عليه، لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أي منصب رسمي  ، وأن أعود إلى صفوف الجماهير  ، أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر.

إن قوى الاستعمار تتصور أن جمال عبد الناصر هو عدوها، وأريد أن يكون واضحاً أمامهم أنهاالأمة العربية كلها وليس جمال عبد الناصر، إن قلبي كله معكم، وأريد أن تكون قلوبكم كلها معي، وليكن الله معنا جميعاً، والسلام .

¯ ¯ ¯ ¯ ¯

إلى هنا أيها السادة تختتم هذه التلاوة لما تيسر من آي الذكر الحكيم . نقلناها إليكم من قصر رأس التين العامر من عند الفاروق أعزه الله وضيوفه من أفراد الشعب المصري الكريم..

¯ ¯ ¯ ¯ ¯

تــَك…الرجل أغلق المذياع ، وراح يقلب فكره، فيما سمع وعاش، وهو ينيخ ظهره على السرير بعد يوم طويل ومشحون وعيناه تلمحان في السماء نجوماً تتأهب للرحيل ، بعضها مطفأ وبعضها وامض .  أنامله تتعلق بزر المذياع  تأهباً لسماع أذان الفجر ، وفى الخلف كانت فيشة الراديو العتيق ، معلقة تتأرجح  بعيداً عن مقبس الكهرباء .

محمد رضوان

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :