- محمد نجيب هاني
في المشهد الشعري الجزائري، يطلّ علينا الشاعر عبد المجيد العلاقي بعمله منطق الدرويش (دار العكاظية للنشر والتوزيع، 2022)، ديوان يشي من عنوانه ومن عتباته الأولى أننا أمام نصوص لا تنشد الزخرفة اللفظية بقدر ما تسعى إلى الغور في عمق التجربة الإنسانية الروحية. إنه عمل يضع القارئ في قلب مقامات صوفية متعالية، حيث يتداخل الشعر بالوجد، والعشق بالأنين، والقصيدة بالذكر.

العنوان والرمز: حين يتحدث الدرويش
اختيار العنوان منطق الدرويش ليس عفوياً. فهو يحاور نصًا تراثيًا خالدًا هو منطق الطير لفريد الدين العطار، لكنه يعكس تحويرًا دلاليًا يُنزِل الرمز إلى مرتبة أكثر حميمية، إذ لا يتحدث الطير هذه المرة، بل الدرويش نفسه، بما يحمله من تجربة وجدانية خاصة. هذه الإشارة الرمزية تضع القارئ مباشرة أمام فضاء صوفي متشبع بالإيحاءات الروحية، حيث يتحول الشعر إلى خطاب كوني.
الغلاف الذي صممه علي صالح بلال يعزز هذا البعد الرمزي، إذ يرسم ملامح تجريدية مشحونة بالروحانية، فيحاكي جوهر النصوص ويهيئ القارئ للدخول في مناخ التجربة.
مقامات شعرية على خطى السالكين
يتوزع الديوان على مجموعة من الفصول التي تحمل عناوين ذات دلالة صوفية واضحة: غربة الدرويش، شهقة الدرويش، صبابة الدرويش، خلوة الدرويش، حيرة الدرويش، عزلة الدرويش. وهذه ليست مجرد تقسيمات شكلية، بل هي أشبه بمحطات في مسار السالك، حيث يختبر العاشق مراتب مختلفة من التجلّي: من الغربة الأولى عن العالم، إلى الخلوة التي تتيح الانقطاع عن الضجيج، وصولًا إلى الحيرة التي تشكّل قمة المقامات الصوفية.
بهذا التنظيم، يكتب العلاقي شعره كما يكتب المتصوف سيرته الروحية، فيجد القارئ نفسه أمام نصّ ليس فقط شعريًا بل سيرة وجدانية مكتوبة بلغة الرمز.
لغة محمّلة بالرمز والبوح
لغة العلاقي لغة مكثفة، مشبعة بالمجاز، تحاول أن تحاكي الروح أكثر مما تصف الواقع. فهو يستحضر رموزًا مثل العنقاء والهدهد والحلاج و”زمزم البوح”، وكلها إشارات تحيل إلى تراث صوفي عريق. لكنه لا يكرر المعاني الموروثة، بل يعيد إنتاجها ضمن سياق معاصر. يقول:
> “يا الله.. هو قلب واحد، فكيف له أن يربي كل هذه الأوجاع ويعلّمها النطق حتى تصير قصائد مكتملة”.
في هذا المقطع، يتحول الألم إلى معلم، والقصيدة إلى ثمرة معاناة، والعشق إلى طاقة قادرة على تحويل الجرح إلى جمال.

العشق والفناء: جوهر التجربة
يؤسس الديوان لفلسفة عشق تتجاوز الحب البشري، لتمسّ جوهر الفناء الصوفي. فالعاشق/الشاعر ينشد التماهي مع المحبوب، والذوبان في مطلق الحضور. لذا يكثر في النص الحديث عن “المعشوق” و”المريد” و”الخلوة”، حتى تبدو القصائد وكأنها محاولات للوصول إلى حالة من الكشف الروحي عبر الشعر. وهنا، تتجلّى قدرة الشاعر على جعل القصيدة وسيلة للتطهّر، ومساحة للسموّ الروحي.
عبد المجيد العلاقي وتجربته الصوفية
إذا تجاوزنا الكتاب لنطلّ على تجربة الشاعر عبد المجيد العلاقي، نجد أن نزوعه الصوفي ليس طارئًا على نصوصه، بل هو جوهر تجربته الشعرية برمتها. فهو شاعر لا يكتب انطلاقًا من تقنيات اللغة وحدها، بل من وعي روحي متجذر في قراءاته العرفانية وإقامته الطويلة في فضاءات التصوف.
إنه ينتمي إلى شعراء جعلوا من القصيدة وسيلة للبحث عن الحقيقة، مثلما فعل الحلاج وابن عربي في زمنهما، لكنه يفعل ذلك بروح معاصرة، حيث يمتزج التراث الصوفي مع القلق الوجودي الحديث. بهذا المعنى، يضيف العلاقي صوتًا متميزًا إلى المشهد الشعري الجزائري والعربي، صوتًا يصرّ على أن الشعر ليس مجرد تعبير، بل طريق وسلوك ومعرفة.

أثر الديوان في المشهد الجزائري والعربي
يحمل منطق الدرويش قيمة خاصة في المشهد الشعري الجزائري، لأنه يضيف إلى مسار طويل من التقاليد الصوفية التي عرفتها الجزائر منذ الزوايا والمدارس الروحية. لكنه يختلف بكونه صوتًا شعريًا معاصرًا يستثمر الرمز العرفاني لتشكيل نص حداثي مفتوح على أسئلة الإنسان الراهن. وبذلك، يلتقي العلاقي مع أصوات عربية أخرى (مثل محمد بنيس في المغرب أو أدونيس في سوريا) ممن جعلوا من التصوف منبعًا لإعادة كتابة الشعر بروح جديدة.
إن حضور هذا الديوان يرسّخ موقع الشعر الصوفي الجزائري كجزء من الحوار الشعري العربي المعاصر، ويمنح القارئ فرصة لاكتشاف أن التصوف ليس فقط تراثًا متحفيًا، بل طاقة شعرية متجددة قادرة على مساءلة الواقع بلغة الكشف والإشراق.
على سبيل الخاتمة..
يُعدّ منطق الدرويش علامة فارقة في مسار الكتابة الصوفية المعاصرة، لأنه يعيد وصل الشعر بروحه الأولى: الكشف، الوجد، البحث عن المعنى. وفي زمن يطغى فيه الضجيج اللغوي، يقدّم عبد المجيد العلاقي نصوصًا تُذكّر القارئ بأن الشعر يمكن أن يكون أيضًا صلاة داخلية ومقامًا للتطهر.
بهذا العمل، يرسخ العلاقي مكانته كشاعر صوفي معاصر، استطاع أن يمزج بين الصفاء الروحي واللغة الشعرية الكثيفة، ليكتب نصوصًا تُقرأ بقدر ما تُتأمّل، وتُسمع بقدر ما تُعاش.














