فسانيا :: نيفين
عن دار الرواد، بمدينة طرابلس، صدر للروائي الشاب محمد التليسي روايته (أراك في كل مكان) والتي شاركت في معرض القاهرة للكتاب ضمن منشورات الدار في دورته ال 52 وتأتي الرواية التي أهدى الكاتب نجاحها إلى ابن عمته بكلماته: أهدي هذا النجاح الذي اكتملت ولادته في هذه الأيام الكئيبة إلى روح ابن عمتي رمزي العويمري في 234 صفحة من القطع المتوسط ولوحة الغلاف للفنانة أماني عبد الدايم أما التصميم فهو للفنان محمد المخ وقد قدمت لها الدكتورة نجلاء محسن رضا والتي جاء في تقديمها:
الرواية شكل من أشكال التعبير الأدبي يعمل في حقل الخبرات الإنسانية جنباً إلى جنب مع الخيال، والرواية صورة تسجّل الأخلاق والعادات، عرفها أدبنا الحديث حين اتصل بالآداب الأوروبية، استهدفت أشكالها الأولى دفع خيال القارئ في عالم الأحداث الغريبة والمفاجئة، ومع التطوّر والتقدّم أخذت تقترب من عالم الواقع، فأضحت مرآة ترسم بدقة ما موجود فيه، فاهتمّت بالنفس والصراعات الاجتماعية والسياسية، وصوّرت الحياة بأمانة. وفي ضوء ذلك لم تعد الرواية ذاك النسيج المعقد من الأحداث تأتي صدفة، وإنما مجموعة من الأحداث المنطقية المتتابعة، وعندما نقرأ رواية ما نرى نسيج وبناء المجتمع بما هو عليه حقيقة، كما نجده عند احتكاكنا بالعالم.
والروائي أصبح قادراً على التحليل الدقيق للأحاسيس والأخلاق والعادات، ولم يعد بطل الرواية خيالاً وإنما كائناً له شعور وأحاسيس. وكذلك صوّر الروائي المواقع التي كانت مسرحاً لأحداثها وأبرَزَ الانسجام والتناغم بين الطبيعة والانسان، والتأثير الخفي للبيئة التي يعيش فيها، والعادات التي كانت سائدة والأخلاق التي توجّه حركة الحياة.
إنَّ عمل الروائي تصوير البشر المذنب والبريء على حد سواء، مثله في ذلك مثل أي فنان آخر يصوّر حياة الانسان على الأرض، ويمكن القول بأنه يصنع نموذجاً عاملاً للحياة كما يراها ويستشعرها، ويعبّر عن آرائه فيها من خلال الشخصيات التي يبتدعها والمواقف التي يصنعها فيها، وهو حرٌّ في اختيار مادته، ولكن تقييم قدرته يكمن ليس في اختيار شخصياته فحسب، بل تقييم القيم الكامنة في شخصياته وسلوكها، بمعنى آخر أنَّ الطريقة التي تجعلنا ننظر بها إلى الشخصية لا تتوقف عليها فقط، وإنما على تنفيذه للرواية ككل.
قد تكون الرواية عاطفية، أو واقعية، أو نفسية، أو غير ذلك من أنواع الروايات، عندما نقف عند رواية “أراكِ في كل مكان” نجدها قد جمعت بين العاطفة والواقعية والنفسية؛ فهي عاطفية تتصل بالمشاعر والأحاسيس وتتمثل بعلاقة رقيقة وتبتعد لتصل إلى أرقى المشاعر الإنسانية، وواقعية لأنها تمثّل الحياة على صورتها، وتعكس رؤية الكاتب للحياة ويفسّرها ليوضح أنها غير عادلة.
فالرواية تفيض بالإنسانية ونحن نتعرف على الدوافع والشخصيات، ونأخذ أفكارنا عن الفضيلة والرذيلة من أمثلة عمليّة، ونأخذ معرفتنا بالعالم من جوّها، فهي تتحدث عن شاب عانى الغربة في بلاده في ظل الظروف التي يمر بها. فالاغتراب وليد الفترات الانتقالية التي يمر بها المجتمع الإنساني، وفي تلك الفترات يتأرجح الواقع بين القمة والقاع دافعاً بالكثيرين إلى العدم والحيرة، وتتعرّض الكثير من المعتقدات والثوابت للضياع، حيث تبدو الإطاحة بها طوق النجاة للكثير منهم، بينما تتربع فئة قليلة فوق القمم عاجزة عن التكيّف مع الوضع الجديد. والغربة، ما هي في النهاية إلا تعبير عن العجز والضعف، فالإنسان قبل الاغتراب كان في وضعه الصحيح يفكر في ذاته، ويفكر في وجوده، وصفاته، وحياته، ومجتمعه فإذا استعصى عليه الفهم والتكيّف مع الطبيعة يبدأ بالتفكير عن البدائل وكان من بينها الاغتراب.
رأى “عمر” بطل الرواية واقعه مانعاً له دون تحقيق أهدافه وتطلعاته ورغباته، وهذا ما دفعه إلى الغربة، ذلك الشاب حاول الهروب من واقعه الصعب بالبحث عن ملجأ آخر لربما تكون “بلجيكا” ذلك البلد الحاضن والمنقذ له من تلك الأوضاع، ولكنه يكتشف أنه لا غنى للشخص عن وطنه مهما مرّ بصعوبات وآلام وأحزان، فكان هذا هو الموضوع الرئيس بالإضافة إلى المواضيع الثانوية والجانبية، وتخلل تلك الرواية الكثير من المواقف المؤلمة والعاطفية التي تجمع بين الواقع والخيال، وبذلك نجح الكاتب في سرد تلك التفاصيل وصولاً إلى ذروة الحدث ليصل إلى الحل.
على الرغم من وجود بعض الاسترسال وسرد الكثير من التفاصيل الدقيقة التي قد تضعف الرواية، لكنه استطاع أن يربط الأحداث بالشخصية، فحركة الشخصيات تقدّم في النهاية تجربة إنسانية ذات دلالات معينة، تهدف من وراءها العبرة والموعظة.
كما استطاع الكاتب أن يجسّد الشخصيات والأحداث من خلال لغة الحوار التي تعتبر جزءاً من البنية العضوية للرواية، فهي تساعد على حيوية الموقف وتكشف عن أبعاد الشخصية للوصول بالفكرة المراد التعبير عنها، والحوار الجيد يكشف عن معاناة شاقة مع الموقف والكلمة.
وظَّف الكاتب الزمن كعنصرٍ من العناصر الأساسية في الرواية، حيث اختار فترة الأحداث العصيبة التي مرّ بها بلده؛ أما مكان الأحداث تدور بين بلده وبلد الاغتراب. فالمكان هو البيئة التي تعطي الملامح الجسدية والنفسية، وهذا ما نجده من خلال وصف الطبيعة التي عبَّر الكاتب من خلالها عن حالة الشاب النفسية، وما ألمَّ به من معاناة جسدية ونفسية وخيبات أمل وأحلام ضائعة.
إذا انتقلنا إلى أسلوب الكاتب فلقد تمكّن بأسلوبه الرقيق السلس، وبعباراته التي تميل إلى البساطة، وألفاظه التي تبتعد عن التعقيد، أن يحرّك خيال القارئ ليلامس شغاف قلبه ويكسب عاطفته بالمواقف المفرحة حيناً والمؤلمة حيناً آخر، وكان عنصر المفاجأة حاضراً في الرواية ليترك العنان لما سوف يحدث لاحقاً.
ولا شك أن الكاتب قد وفق في طرح أفكاره ورؤيته تجاه ما يحدث في الواقع، بعد أن جمع خيوط أفكاره، وقدّمها في نسيج حريري ناعم، بعيداً عن التكلّف، متمنين له دوام التوفيق والنجاح
وتعد هذه الرواية المطبوع الثاني للكاتب، حيث سبق وصدرت له عن مكتبة طرابلس (فيرينا)، والذي ضم مجموعة من الومضات والنصوص القصيرة