- شكري الميدي أجي
خلال لحظات الصمت، أمسكتْ بمجلد دوستويفسكي ثم بدأت تُقلب فيه، كان على مر السنوات قد وضع مئات الإشارات ضمن الصفحات، بدتْ له مهمة، قلبتْ فيها، جالتْ ببصرها ثم أخذتْ تقرأ قليلاً، تنهدتْ ووضعتْ المجلد على الطاولة، كان يشعر بأنه واقعي أكثر من أي وقت مضى، الضوء الشفاف، المجلد الأزرق الكثيف، حذاؤها الأبيض، ذو المقدمة الصغيرة، قدماها صغيرتان كما سيفضل أي إمبراطور صيني. “هل مازلت تواصل تصميم الصور؟”. “نعم”. قال. “تبدو مهموماً”. قالتْ متسائلة وهي ترجع خصلات شعر إلى وراء أذنها، كانتْ خصلات متمردة حقاَ. “لا، لكنني منذ مدة أحاول تصميم صورة واحدة كبيرة”. “لابد أنها معقدة”. “إنها كذلك، فهي تحتوي على كثير من التفاصيل”. “تفاصيل؟”. ابتسم. “إنها تجعل من الصورة كاملة”. “صحيح، أتذكر أنني لاحظتُ هذا في صورك، أتعرف أن عندي نسخة من لوحتك عن قوت القلوب”. لم يكن يعرف هذا إلا أنه قال: “إنها إحدى أولى لوحاتي”. “أحببتها دوماً”. “ربما فيها شيء منك”. “لكنك لم تكن تعرفني حين قمت بتصميمها”. “ربما لم نلتق، لكنني عرفتك دوماً”. ابتسمتْ، أمالت رأسها يساراً ثم قالتْ وهي تتطلع في عينيه: “تحب الغموض، ها”. “لا، الوقت فقط ما أحتاج إليه لأكون واضحاً”. “مع هذا أراك واضحاً”. “أنتِ واثقة”. “ألا يجب أن أكون؟”. “يليق بك، وهذا جيد”. قال ثم نظر بالتحديد وسأل: “ماذا تفعلين؟”. “تقصد في حياتي؟! أدرس التاريخ، وأمتهن الصحافة كما أني أستعد لتقديم فيلم قصير”. “فيلم قصير؟”. أعجبته العبارة، إنها رنانة وباعثة على الطموح. “نعم، فيلم قصير”. هز رأسه مستفهماً، فأوضحتْ: “تلقيت دورة في صناعة الأفلام القصيرة، وجدتُ سيناريو جاهزاً عن شاب يدمن على حبوب الهلوسة يرتكب جريمة مريعة، قتل عائلته”. كانت تلك قصة مشهورة، حدثت في إحدى مناطق بنغازي. “سيكون عملاً معقداً”. “إنه كذلك بالفعل”. “لماذا هكذا موضوع؟”. مطت شفتيها متفكرة ثم قالت: ” أظن لأنني وجدتُ نصاً جاهزاً وممولاً مستعداَ لطرح الفكرة من دون مقابل أو خوف”. “هل هو نص قوي؟”. “إنه واضح، وأخلاقي”. ابتسم. “يبدو دعائياً، ألم تبحثي عن موضوع أفضل”. “لو وجدتُ أفضل منه، لاستبدلته”. “لدي بعض المواضيع”. قال مازحاً. كانت مواضيعه تحتوي على الأغلب قصصاً عن القتل أيضاً، لكنها مبررة بقصص حول العشق، موجودة ضمن صوره الكثيرة، متناثرة، العشرات من القصص القصيرة، من أجل تكوين المشهد العظيم في رأسه، على غرار إيفان الرهيب أو بطرس الأكبر، العودة من الرحلات الأوروبية أو حتى مصاحبة تلك الرحلات حتى نهايتها المأساوية. في جزء بسيط من ذهنه، كان يمتلك قصة. “سأحكي لك قصة”. قال راغباً في إثارة إعجابها. “أوافق، مزاجي جيد لسماع القصص”. قالتْ وهي تقترب منه أكثر. كان يحس بحرارة جسدها، اقترب منها بدوره، حين بدأ يسرد ما في ذهنه، كان يفكك الكلمات ويجمع الصور، ويبتلع ريقه، ويتمتع باللحظات. “القصة حدثتْ في بلدة جنوبية، قوات فرنسية كانتْ في البلدة، إنها تتخذ منها قاعدة للهجوم على البلدات الجنوبية الأخرى. خلال تلك السنة بالذات أتت فتاة غريبة من مكان مجهول، قيل إنها جاءت مع مجموعة من العائلات المهاجرة. الفتاة في الثامنة عشرة، سُميت بالبيضاء لأنها لا ترتدي إلا الفساتين البيضاء المطرزة فيما بقية الفتيات يرتدين الفساتين المشجرة، والتي تحتوي قصصاً عن الغابات البعيدة والمتشابكة الأغصان، نمور وأسود عليها، كانتْ تبدو قصيرة، فهي تكشف عن السيقان النحيلة بكتل من الفضة. هذه الفتاةـ كانت ترتدي حذاء جلدياً بأربطة تصل حتى أسفل الركبة بقليل، مع فستانها القصير جداً، فهي تعمل عند الفرنسيس. قيل إنها طباخة وقيل إنها ممرضة، إنما كانتْ كريمة للغاية وتساعد الجميع، تقدم الطعام والمواد الغذائية، الملابس الشتوية لكل من يحتاج. كانت تسعى لإطلاق سراح المقبوض عليهم، تخفف العقوبات عن البعض بقدر ما تستطيع، وكانتْ لأجل هذا محبوبة جداً. في البلدة سرت شائعات عن كونها عشيقة الجنرال. اعتبر مبعث هذا الحديث حسداً من الأعداء. بعض من عرفها قال إنها ليست كذلك، وإن الجنرال مسن ستيني بحاجة إلى العناية، وهي تقبع معه وتقوم بخدمته لقاء راتب شهري، وإنها من أغاديس، وقعتْ في الأسر وتم القبض عليها خلال إحدى المعارك، لم ينقذها من الموت سوى أنها قامتْ بعلاج أحدهم ضمن الجيش الفرنسي، لا أحد يعرف الحقيقة”. كانتْ تستمع إليه باهتمام، صمت لثوان ثم واصل: “ما حدث هو أن الجنرال ومجموعته تركوا المدينة بعد فترة، فظلتْ هي داخل أحد المنازل، كونتْ بعض العلاقات مع بعض النسوة، فيما أكثرية البلدة كانوا يحترمونها، إلا أنها ظلتْ بعيدة عن الجميع، لا تحتك بأحد إلا إن دعتْ الضرورة لذلك. لم تعد ترتدي الأبيض، التزمت بالأسود والرمادي، لكن الناس ظلوا يلقبونها بالبيضاء”. بدتْ منتبهة، مدركة أن هناك شيئاً ما سيحدث. “في صباح أحد الأيام عثر في البلدة على عشرات الصور الفوتوغرافية، العشرات منها تُظهر البيضاء عارية وفي حالات مخجلة مع قادة الفرنسيس، واكتشف الناس أنها مجرد عاهرة، من يومها تجاهلها الجميع، واكتفوا بكراهيتها سراً، واحتقارها علناً، يضايقونها في الطرقات حتى إنهم يلمسونها، ظلتْ على هذه الحال لأشهر، وفي أحد الأيام وخلال أحد الأعراس، دخلتْ ساحة الرقص وأخذتْ ترقص بجنون مطبق، كان جسدها شبه عار، يتوتر بتقلصات الخيول، يتموج كالبحيرات العظيمة، كانت تهدر بقوة ألف فرس وقد بكى الشيوخ لأنهم لم يروا في حياتهم فتاة مثلها، ها هم يودعون الحياة ويتركونها وراءهم، يقال إنها استخدمتْ كل التقنيات التي تعلمتها من الأوروبيات، العاهرات الأوروبيات، في تلك الأمسية طعن خمسة من الشبان أنفسهم بسبب من الجذب، لم يقدروا على تحمل كل ذلك الجنون الجسدي المرعب، ملئت الأرض بالأوراق النقدية، نزل الشيخ بنفسه ورقص أمام صدرها وأحياناً تحت قدميها وقد كانت ترتدي ملابسها البيضاء المخصرة والتي قامتْ بقطع أجزاء منها، وسطها يكاد ينقصف”. ضحكتْ الفتاة فيما واصل هو بلذة. “في تلك اللحظة، خلال الذروة المجنونة للشهوات، يصل شخص، مسحوباً إلى حلقة الرقص بسبب الجنون ما كان يحدث، ينظر ثم يميزها، يتقدم ببطء، وفي عينيه حمرة الغضب، بين يديه سلاحه الناري، أمر عادي، ثلاثة أرباع الرجال لديهم أسلحة نارية، يطلقون منها في الهواء تباعاً أو معاً، لكن هذا الرجل صوب السلاح إلى قلب الفتاة، وقبل أن يفهم أحد شيئاً، أطلق عليها النار من تلك المسافة القريبة، شاهد الجميع جسد الفتاة يُقذف بعيداً ثم يتقدم منها مجدداً ويطلق النار على الرأس”. صمت في دار الكتب الوطنية، ساد الهدوء، كأنهما لوحدهما ولا أحد. “يا ربي”. قالتْ. “حدث تماماً كما وصفتْ”. “لماذا يفعل هذا؟”. “كان يراها من قبيلة دونية، لا تستحق كل هذا الاهتمام”. “لم أفهم”. “إنها مسألة أفريقية صرفة، إنها من طبقة الحدادين، وهي طبقة محتقرة منبوذة في مجتمعات جنوب الصحراء، بالتالي فهي محتقرة لا ترقى إلى هؤلاء الأشراف”. “يا ربي، أمعقول هذا؟”. “غير معقول، لكنه يحدث، وهذا ما يصلح ليكون فيلماً”. القصة جزء من لوحته الكبرى. الفصل رقم 21 من #توقف_نمو