أحمد حمدوني
عاد إلى شقته إثر يوم شاق ومضن قضى ردحا منه على أرصفة المدينة شقاء وما إن كانت الشمس تميل إلى مغربها وترفع عن كاهله هجيرها الذي أعياه حتى ابتسم القدر إلى البائس نصف ابتسامة وبعث اليه زبونة تجادله في ثمن القطعة وتناقش عيوبها وتغض النظر عن اسرارها حتي استقر اتفاقهما إلى ثمن زهيد بخس…
وقف متأملا الشارع من خلف زجاجه المكسور متسائلا عن مكمن الخطأ ومدفن الصواب وما كان عليه فعله، فيبتسم ويغرق في ما يجعله يغوص في تساءل كهذا وقد بلغ من العمر عتيا، رسم كلبا على زجاج النافذة وقال : أوكلت لكلاب الحي مهمة حراسة بيوتها… وما إن قاطع قوله مواء قطة
حتي قال: وقد أوكلت لقطط الحي مهمة القضاء على الفئران التي أتلفت مؤونة البشر، وأنا ما مهمتي في هذه الحياة؟ ولأي سبب أو هدف وجدت؟ فلا خبرة لي في الحراسة كالكلاب ولا طاقة لي على ملاحقة جحافل الفئران كما تفعل قطط الحي…
وما كاد يتم كلمته حتى تفطن إلى نور خافت ينبعث من البناء المقابل ولمح طيفا يتحرك داخل إطار النافذة
كان يراقبه بتمعن ثم يجول ببصره في أرجاء القاعة ويعود إلى تأمله مجددا…
تقهقر الشيخ وتحرك إلى اليمين هربا من عين تلاحقه وترصد تحركاته فتسمر الطيف مكانه دون حراك أو إبداء نية لفعل شيء
حينها فقط انتهى الشيخ إلى قناعة بأن ملك الموت قد تجسد في هيئة قاتل مأجور يتحرك في ظلامات الليل بكل هدوء وثبات أو أن نفرا من ملائكة السماء قد حل ليجيب أهل الأرض من المتسائلين بما تدبره آلهة السماء في شأنهم أو أن مجرما إتخذ من بناء مهجور وكرا ومقرا لتجارة المخدرات…
حرك أصابعه على الزجاج وكان لاينفك عن التساءل وطرح فرضيات تراكمت في رأسه حتى كادت تدفعه إلى الجنون فيقول : هل أستحق فعلا الموت على يد هذا الغريب؟ ولكن لماذا؟ ما السبب وما الذنب اللذان سأموت لأجلهما؟
يفكر لبرهة ثم يردف: هل وجدنا في هذه الحياة فقط لأجل الموت؟ الموت فقط … دون أسباب نعلمها.
لكنه سارع بتجاوز هذا الإفتراض وراح ينسج غيره كأن يكون ذاك الغريب “غودو”*(1) هو ذاته غودو الذي قضى شخصيات المسرحية عمرا في انتظاره لكنه و في النهاية قد نكث العهد وتخلف عن الموعد فقال : هل آن للحقيقة أن تتجسد الآن؟ أي حقيقة ؟ وما الفائدة من هذا وقد تطبع الإنسان بكل ألوان الخرافة وأشكالها وذهب في الزيف مذاهب…
تبرم من السير في دعم اعتقاده وعاد يسعى في اعتقاد آخر ألبس فيه لمراقبه جلباب هرمس*(2) رسول آلهة السماء إلى أهل الأرض فقال : وما جدوى أن ترسل السماء برسلها وقد مر من العمر الشيء الكثير ؟ وما مطمع الآلهة من شيخ مثلي راح الزمان بصحته، ورزقه من الضعف والهوان بصرا ضعيفا وسمعا ثقيل؟
هل تضربنا آلهة السماء بالحكيم والكاذب والقاتل وتاجر المخدرات في جسد واحد وذات لحظة؟
إعتقاد يفضي إلى آخر وسؤال يضاف إلى القائمة دون إجابات تدون حتى تحرك الطيف بعد طول انتظار وراح يرفع شيئا ويعلقه على أحد جدران القاعة كأنه يأمر الشيخ بشيء، جال الشيخ ببصره في أرجاء غرفته حتى تفطن إلى وجود لوحة معلقة على أحد جدران غرفته فسارع إليها دون تفكير، إقتلعها وألقى بها من نافذة غرفته وما أن هم بإغلاق النافذة حتي عاد الطيف إلى الظهور وهب صوت عصف بصمت الشيخ وصوت الرياح
قائلا : رفقا بحال إبنتك يا والدي فقد أعياني الصبر ومللت ملاحقتك كل يوم بين شوارع المدينة حتى اقنعك بأن تبتاعني هذه اللوحة التي تكرر إقتلاعها وإلقائها في القمامة كل ليلة وتعود عند الصباح لتلتقطها وتقضي اليوم محاولا بيعها على أرصفة المدينة.
وما ذلك الطيف يا والدي غير صورتي المنعكسة على زجاج النافذة فلا ترسل آلهة السماء رسلا الا على شكل ملاك رحيم يسهر الليل لحمايتك من غدر الزمان الذي تلاعب بذاكرتك وأرهقها دوما.
*(1) غودو: الشخصية المحورية لمسرحية “في انتظار غودو” للكاتب الإيرلندي صمويل بيكيت.
*(2) هرمس : “Hermes” هو رسول آلهة الأولمب الإغريقية الذي كان يتقن لغة الآلهة، ويفهم ما يجول بخاطرها، ثم يترجم مقاصدهم، وينقلها إلى أهل الأرض من بني البشر.