هطول

هطول

قصة قصيرة : عبدالرحمن جماعة

الإشارة حمراء.. توقفتُ، وتوقفتْ كل السيارات خلفي، انطلقت السيارات القادمة من الجهة الأخرى، رجل المرور يراقب حركة السير دون أن يتدخل في آلية عمل السيمافرو، كنا ننتظر دورنا ريثما تأخذ الشوارع الثلاثة دورها. ها قد حان دورنا، ثلاث ثوانٍ.. ثانيتان.. ثم صوت صافرة قوية!. ظننتُ للوهلة الأولى أنه إيعاز لنا من شرطي المرور لننطلق، لكنني رأيته يرفع كفه في وجوهنا لنتوقف، في البداية ظننت أنه رتل لأحد (الأشاوس)، هكذا يلقبون قادة المليشيات كنوع من الفكاهة التي تحمل في طياتها الكثير من الغبن والقهر!.

لم يكن كما ظننت، بل كان كل ما في الأمر أنها فتاة تريد أن تعبر التقاطع!.

كنتُ على عجلة من أمري، أبديتُ الكثير من التذمر والاستياء، ألم تجد مكاناً تعبر منه سوى هذا التقاطع؟! في هذه اللحظة كانت تمر من أمام سيارتي، إلتفتت إليَّ، أطلقتْ عينيها نحوي، ثم أهمدتهما، كانت هذه الحركة شبيهة بمن يُشهر في وجهك سلاحاً ثم يُعيده إلى غمده، وهو لا يدري أنه قد فتك بك حتى ولو لم ينوِ ذلك، شعرت ببرود في أطرافي وزيادة في خفقان القلب وتعرق في جبهتي، حالة تشبه اليقظة المفرطة أو الغيبوبة التامة، هي كالحُلم والحقيقة في آن معاً. لا أدري من أين هطلت علينا! تمشي بثقة بين الريث والعَجل، يتبعها بعض عطرها، وبعضه يبقى متشبثاً بالمكان يحمل ذكرى مرورها من هنا. يا إلهي.. أي كلمة يُمكنها أن تصف هذا الحسن؟!

حقاً.. إن اللغة الفقيرة لم تُخلق لمثل هذا المقام، والعبارة الضيقة لم تكن لتتسع لكل هذا الجمال!. لا تزال يدا شرطي المرور معلقتان في نفس الوضع، وهو فاغر فاه مشدوهاً، توقفت السيارات القلقة عن التزمير، أحدهم أخرج رأسه من نافذة السيارة لينظر، ثم نسيه في الخارج!. سكن كل شيء في ذلك المكان، حتى السحاب والطيور في الجو، خيل إليَّ أنها هي الجزء الوحيد المتحرك في الكون، وأن كل شيء يُرهف سمعه لوقع قدميها!.

غادرتْ كحلم لذيذ، ورحلت كطيف جميل، اختفت عن الأنظار التي تُلاحقها، عادت الحياة إلى المكان، بدأت يدا شرطي المرور تتحركان كيدي مشلول لا يزال تحت العلاج الطبيعي بعد أن شفاه الله، تفطن السائق لرأسه الفالت من نافذة السيارة فأعاده إلى رشده، عادت الطيور لتخفق بأجنحتها، تذكرت السحب أنها على موعد مع هطولٍ في مكان ما، العلم القديم المعلق على سارية عاد ليرفرف من جديد، قال المؤذن بعد صمت: “حي على الفلاح”!.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :